دمشق | استغرق عبور نقطة المصنع الحدودية أكثر من ساعة بفعل الازدحام. إنه «الربيع » يعود إلى سوريا مجدداً، يقول أحد كبار الموظفين في البلاد، مشيراً إلى أنه يستخدم التعبير بمعناه الحرفي. «الناس ملّوا. وهناك توق الى الحياة الطبيعية». نهار السبت الماضي افترش اهالي الشام المساحات الخضراء كلها، ومعها الأرصفة. القريبون من النظام يؤكدون أن الوضع «أفضل من السابق». يقول بعضهم : «هذه دمشق، وهذه سوريا. لا نقول إن الوضع في أحسن أحواله، لكنه ليس على مشارف الانهيار على ما تصوره الجزيرة والعربية. الوضع يتحسن مع اطلالة كل شمس. حتى إعلام آل سعود اعترف بالخسارة: الأسد كسب الجولة الأولى» ، في إشارة إلى عنوان افتتاحية عبد الرحمن الراشد في صحيفة «الشرق الأوسط» قبل أيام.
لا تزال سوريا، من الناحية الدبلوماسية، تلعب في موقع الدفاع. تحاول صد الهجمات التي لا تهدأ. حاولت، من دون جدوى، منع تدويل الأزمة وإبقاءها في إطارها العربي. كان ذلك واضحاً في طريقة تعاملها مع المبادرات العربية، وآخرها إرسال بعثة المراقبين بقيادة الفريق مصطفى الدابي الذي جرى التعاون معه إلى أقصى حد، لكن تقريره كان مصيره النهائي في سلة المهملات العربية.
قرّر الحكم في سوريا المواجهة، خصوصاً عندما قرر خصومه من العرب إحالة الملف إلى مجلس الأمن، فكان الخيار السوري: المواجهة في تلك الساحة. وتبدو دمشق مطمئنة إلى إطار اللعبة الدولية وسقفها اللذين رسمتهما روسيا والصين من خلال الفيتو الحاسم: «لا لأي تدخل عسكري في سوريا، ولا لأي قرار حول ممرات انسانية يمكن أن يّستغل لإمرار تدخل عسكري».
من هنا يمكن فهم التفاؤل السوري الحذر بمهمة أنان. في العلن يقال إن الرجل شخصية دولية لها تاريخها، وهو غير مستعد لأن يتسبب في أي اساءة لماضيه اليوم . كما أن تكليفه لا يمكن أن يكون قد تم من دون ضوء أخضر روسي ــ أميركي، ما يعني أن أي تفاهم يمكن أن يحصل بين هذين الطرفين سيتظهّر عبر أنان.
اما في الغرف المغلقة فالحديث يختلف بعض الشيء. يقال إن الأمين العام السابق للأمم المتحدة «تقدم خلال الاجتماع مع الرئيس بشار الاسد بمشروع هو نفسه المشروع العربي، ولكن من دون بند تنحي الرئيس. الكلام هنا عن وقف نار وإطلاق معتقلين وفتح حوار برعاية الأمم المتحدة في جنيف، مع ضمانات لفتح الطرق أمام الجمعيات المعنية لنقل المساعدات إلى سوريا، فضلاً عن مطالبته بالسماح للجان حقوق الانسان بالتحقيق في ادعاءات بارتكاب جرائم حرب».
الرواية نفسها تضيف ان الأسد تدخل قائلاً: «هناك من خالف الأوامر، وهناك من ارتكب أخطاء، وقد اعتقلنا كل من وُجهت شكوى في حقه، وأجرينا تحقيقاتنا. ونحن ذاهبون نحو محاكمات، لكنني أسألك سيّد انان: هل أنتم مستعدون لفعل الشيء نفسه لدى الطرف الآخر؟».
الرئيس السوري رحّب أيضاً بكل الوساطات، وقال انه مستعد لمحاورة المعارضة والتوصل إلى اتفاق، «لكن اتفاقاً كهذا كيف يُطبق في ظل وجود المجموعات المسلحة؟ هل تضمنون أن تلتزم هذه المجموعات بما نتفق عليه؟». وتابع الأسد: «يبقى أمر واحد، وهو البحث عمن يموّل هذه المجموعات ويسلّحها. لا يُعقل أن تتدفق كل هذه الأموال والأسلحة وحدها».
لم يجب أنان، واكتفى بالقول للأسد: «مقترحاتك جديرة بالدرس».
وبحسب الرواة انفسهم، فإن التروي السوري بالرد على مقترحات انان مردّه رغبة دمشق في تنسيق التفاصيل مع موسكو، على قاعدة أن «ليست هناك ثقة بالأمم المتحدة ولا بأنان». وهذه الشكوك عززتها تقارير إعلامية بأن الموفد العربي ــ الدولي غادر دمشق إلى قطر للقاء رئيس وزرائها الشيخ حمد بن جاسم آل خليفة. والسؤال هنا: أليس منطقياً أكثر أن يلتقي أنان، وهو ممثل الجامعة العربية والأمم المتحدة، الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي أو الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون؟ اللهم إلا إذا كان الرجل يعتبر قطر طرفاً في الحرب على سوريا، وهو ذاهب لمحاورتها».

مكافأة حلب

ويمكن الخروج من أحاديث مع مسؤولين بأن هناك اتجاهاً، بعد الانتخابات التشريعية المقررة في 7 أيار المقبل، الى تشكيل حكومة إدارة أزمة برئاسة شخصية من حلب، مكافأة لهذه المدينة على وفائها للنظام، على أن تكون حصة العاصمة وازنة فيها، تعبيراً عن تقدير النظام لحمايتها له، وخصوصاً فئة رجال الأعمال والتجار. و تتوقع المصادر أن تحصد دمشق وحلب (تشكلان مع ريفهما ١٢ مليون نسمة) نحو ٥٥ في المئة من مقاعد مجلس الشعب. فيما تتباين التقديرات حول ما يمكن أن يناله حزب البعث، الذي يعاني حالة ارباك وضعضعة وترهل. أما في حال شارك الاسلاميون المعارضون فقد يحصدون نسبة تقارب عشرين في المئة.
الأهم، في هذا السياق، ما كشفه مقربون من الرئيس السوري من انه حسم النقاش مع مستشاريه حول اقتراحهم تأسيس حزب جديد. إذ أبلغهم رفضه قائلاً: «أنا بعثي وسأبقى كذلك».

أمن وعسكر

وفيما المعركة الدبلوماسية الدفاعية مستمرة، تتواصل المعركة الميدانية، العسكرية والأمنية، بطابع هجومي. وآخر المعلومات لدى المقربين من الحكم تؤكد استعادة السيطرة على مدينة ادلب، والاستعداد لشن هجوم على منطقة جبل الزاوية حيث تفيد التقديرات بأن العملية هناك قد تستغرق شهوراً عدة، مع الاشارة الى ان الحكم يسعى بوضوح الى «الحسم عسكرياً في المدن والبلدات الرئيسية قبل آخر الشهر الجاري، وتأمين الطرق الدولية التي تربط المدن السورية بعضها ببعض، في ظل تقديرات بأن الحسم الأمني سيستغرق وقتاً طويلاً».
وفي هذا السياق يسمع زائر دمشق مناقشات حول طريقة التعامل مع ملف المجموعات المسلحة. فهناك «من لا يزال مقتنعاً بأن الأسد ظل ليّناً جداً في تعامله مع ما يجري»، ويطالب هؤلاء باعتماد سياسة القبضة الحديدية، مشيرين إلى أن ذلك «لو حدث عند بدء الأحداث في درعا لما امتدت الاضطرابات إلى خارج هذه المحافظة». لكن مصدراً مطلعاً يقول: «الرئيس كان على حق. الحسم كان ينتظر الظرف السياسي المناسب من جهة، وإعداد وحدات الجيش السوري لهذا النوع من القتال من جهة ثانية، وهو ما تطلب تدريباً على حرب المدن ومعارك الشوارع. وقد ظهرت النتائج في بابا عمرو حيث اعتمدت تكتيكات عسكرية سمحت بتحقيق المهمة بأقل الخسائر، وجرى اعتماد مبدأ السيطرة على الحي منزلاً منزلاً. لم تتصرف كجيش نظامي يدخل ويقيم مراكز تتحول أهدافاً للمسلحين، بل اعتمدت اسلوب عمليات النخبة».
ويشير المصدر إلى أن الأسد «كان مقتنعاً منذ البداية بأن التعامل مع هذه الأزمة يجب أن يكون كالتعامل مع الطفرة الجلدية التي لن ينفع معها أي علاج قبل أن تأخذ مداها، وأن كل ما يمكن فعله هو تهدئتها وتطويقها للحؤول دون انتقال عدواها».
من جهة أخرى، يقول المقربون من النظام «ان الجهد قائم بقوة لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الـ17 في اتجاه ربطها بقيادات ثلاث، كل بحسب اختصاصها، وزارة الداخلية وقيادة أركان الجيش ورئاسة الجمهورية، على أن تشكل معاً ما سيسمى مجلس الأمن القومي. ويراهن الاسد على ان يكون هذا المجلس مسؤولاً، فعلاً لا شكلاً، أمام لجنة الأمن والاستخبارات النيابية التي ستمارس دورها الكامل على غرار ما يحصل في الدول الغربية».
ويشير هؤلاء إلى أن الرئيس السوري «مصرّ على تحييد الأمن والعسكر عن كل الأمور المدنية، وكذلك عن الإعلام حيث تقرر منع جميع العسكريين والأمنيين من التعاطي بشؤونه وتركه لأصحاب الاختصاص من المدنيين».