الخرطوم | رغم نزوح الآلاف من سكان المناطق الحدودية التي تقع بين دولتي السودان وجنوب السودان، بعدما فقدوا المأوى نتيجة استمرار عمليات الاحتراب المسلح على الشريط الحدودي الفاصل بين الجانبين، إلّا أن ثمة جماعات سكانية أخرى مستفيدة من حالة عدم الاستقرار الأمني، ولا سيما في منطقة جنوب كردفان حيث تشهد ديموغرافيا المنطقة كثافة عالية لقبائل المسيرية الرعوية التي استقطبتها الحكومة السودانية في وقتٍ من الأوقات إلى جانبها، باعتبار أنها قبائل مقاتلة جذورها العربية تجعلها ترحج كفة الانتماء شمالاً.
أما قبيلة المسيرية فتشدد على أن ولاءها الأوحد لأبقارها، فأينما يجد ذلك الحيوان مرعى له فهو أرض للمسيري الذي يسير خلف أبقاره، وهي وحدها تحدد له محل إقامته. لذلك ظل ولاء تلك القبيلة السياسي في حالة من التأرجح المستمر. حتى في حالة احتدام الصراع لا يتوانى المسيري عن ترجيح مصلحتة الخاصة على أي اتفاق مع أي جهة حكومية أو سياسية، وفق ما يؤكده المحللون. وربما هذا ما يفسر الموقف الأحادي الذي اتخذته القبيلة أثناء اندلاع الصراع المسلح في منطقة جنوب كردفان، وتحديداً في منطقة هجليج النفطية قبل نحو أسبوعين بين الجيش الشعبي التابع لدولة جنوب السودان والقوات المسلحة السودانية، حيث ثبت أن هناك طرفاً ثالثاً يقف بين الجيشين، ألا وهو قبيلة المسيرية. وظهرت القبيلة كقوة ثالثة منفصلة تعمل وفق مصالحها العليا. فقد عملت مجموعة مسلحة من أبناء القبيلة على قطع الطريق أمام رتل السيارات التي كانت تقل العاملين في الشركات النفطية في هجليج وقامت بحجزهم في سوق المدينة خارج معسكر العمل النفطي. وأوضح أحد العاملين، طالباً عدم الكشف عن هويته، أنه «بعد توغل الجيش الشعبي داخل هجليج واشتداد عملية تبادل إطلاق النار عبر المدفعيات الثقيلة، كان الوضع جد خطير». وأضاف: «بعدما هدأ صوت إطلاق النار، قررت معظم الشركات الأجنبية أن تجلي عمالها خارج حقول النفط باتجاه الشمال، لكن في أثناء عملية السير، صوبت نحو السيارات بنادق مجهولة ظنوا بدءاً أنها للجيش الشعبي، بيد أنه اتضح في ما بعد أنهم مجموعة من أبناء المسيرية». وروى الشاهد كيف وجه المسلحون بنادقهم نحو السيارات وصاحوا فيهم: «ارجعوا من حيث أتيتم. ألستم رجالاً، وقت جمع النقود تبقون وعند الحرب والدواس تهربون». وعندها لم يجد المشرفون على العمال والمهندسين بُداً سوى الرجوع إلى حيث أتوا، وإلاّ فسيُحصَدون جميعاً بواسطة آلة قتل المسيرية.
وتفتح تلك الأحداث الباب واسعاً أمام جدل قادم حول وضعية المسيرية في ظل الأوضاع المستقبلية بين السودان وجنوبه، سلماً كانت أو حرباً؛ إذ تشير كل المؤشرات إلى أنها ستكون قوة مستقلة لا يستهان بها، ربما أدارت ظهرها في أي لحظة لحكومة الخرطوم نفسها، التي طالما استخدمتها كورقة ضغط فاعلة في صراعها مع جوبا. ويبدو من خلال ما قامت به القبيلة أخيراً، وغيره من الأحداث المماثلة، أن أبناء قبيلة المسيرية لا يضعون في اعتبارهم أي حرج يمكن أن تسببه تصرفاتهم للحكومة المركزية في الخرطوم، التي طالما راهنت على ولائهم لها، ولم تبخل بدورها في تقديم كل أشكال الدعم اللوجستي لأبناء القبيلة. كل تلك المؤشرات تؤكد أن قبيلة المسيرية هي المستفيد الأكبر من حالة الزعزعة الأمنية التي تشهدها تلك المرابع الحدودية، حيث أكدت مصادر مطلعة تحدثت لـ«الأخبار» أن مجموعة مسلحة من أفراد القبيلة شنت هجوماً على معسكر للدفاع الشعبي التابع للحكومة السودانية في منطقة «عبد الفضيل الماظ»، بهجليج للاستيلاء على السلاح. وأشارت المصادر إلى أن اثنين من أبناء القبيلة قتلا أثناء تلك العملية.
من جهته، قلل ناظر قبيلة المسيرية، مختار بابو نمر، في حديث لـ«الأخبار» من المخاوف من نيات قبيلة المسيرية، مشيراً إلى استمرار ولاء قبيلته للحكومة السودانية، وأن أفراد القبيلة يعملون خلف القوات المسلحة السودانية. وأضاف نمر: «لدينا نحو 300 من شباب القبيلة مسلحين ضمن قوات الدفاع الشعبي لحماية هجليج، ونحن لا نزال نعمل مع القوات النظامية للدولة، فيما لا يزال يمسك قادة القبيلة بزمام الأمور تحسباً لأي انفلات قد يحدث من مقاتلي القبيلة، نتيجة استفزازهم من قبل قبائل الدينكا الجنوبية التي تخطت الحدود الشمالية المتفق عليها حتى الآن إلى منطقة أبيي المتنازع عليها أيضاً». ووفق الناظر بابو نمر، فإن أبيي خالية من أي عنصر عربي ما عدا قوات حفظ السلام الإثيوبية، مهدداً بدخولهم أبيي مرة أخرى ما لم تُطرَد القبائل الجنوبية إلى خارج حدود إدارية أبيي. وأضاف: «نحن لدينا مجموعة مسلحة، وعلى استعداد لدخول أبيي إذا لم تقم قوات حفظ السلام بواجبها في إخلاء المنطقة من قبائل دينكا نقوك الجنوبية».
وبدا واضحاً للعيان حالة التململ التي يعيشها أفراد قبيلة المسيرية، وخصوصاً مع دخول فصل الصيف الذي تدخل فيه كل المنطقة الواقعة شمال حدود 1956 في حالة من الجفاف وشح في المياه، وذلك لأن الرافد المائي المعروف باسم «الرقبة الزرقة»، الذي يسقي منه رعاة المسيرية أبقارهم داخل حدود الدولة السودانية، يصل أقصى درجات نضوبه وجفافه عند منتصف نيسان الحالي، وبالتالي فلا بد من التحرك جنوباً نحو نهر بحر العرب الذي يقع داخل حدود 56، أي إنه يتبع لدولة جنوب السودان. ويقول ناظر قبيلة المسيرية، في لهجة لا تخلو من تهديد: «لن نستأذن من أي أحد للدخول إلى مراعينا في جنوب الخط، وعلى مندوبي الدولتين الموجودين الآن في منطقة أبيي مخاطبة حكوماتهم بهذا الخصوص، أما نحن فلن نخاطب أحداً وسنسير ونتحرك حسب مراعينا».
ويفسّر مراقبون صمت الخرطوم إزاء ما يصدر من تلك القبيلة، بأن الحكومة ليس من مصلحتها خلق عداء مع المسيرية؛ لأن ذلك يعني من ناحية استراتيجية فقدان كل المناطق التي تقع تحت سيطرة تلك القبيلة في الحدود المشتركة، لافتين في الوقت عينه إلى أن الحكومة المركزية تدرك عدم ولاء المسيرية لها منذ الانتخابات الأخيرة التي جرت في عام 2010 والتي كشفت إحجام أبناء قبيلة المسيرية عن إعطاء اصواتهم للمترشحين باسم الحزب الحاكم.
أما أبناء القبيلة فيبررون سخطهم على الحكومة في الخرطوم بعدم تنفيذها أي مشاريع تنموية في مناطقهم، وخصوصاً بعد ظهور البترول في مناطق (بليله، كنار، دفرا، هجليج)؛ إذ كان من المفترض، وفق اتفاقيات مسبقة مع المركز، استيعاب أبناء المناطق المنتجة للبترول بنسبة 52 في المئة من حجم العمالة، وهو ما لم تلتزمه الحكومة السودانية حسب متحدثين باسم القبيلة.