دمشق | انتهت حمى الانتخابات البرلمانية السورية سريعاً، من دون أن تجد الأصوات المعارضة التي شككت بنزاهتها من يسمعها. وكما كان متوقعاً في ظل الأزمة الراهنة، حصل حزب «البعث» على أكبر عدد من المقاعد النيابية، وتحولت مجمل الأحزاب حديثة التأسيس، إلى أشباح أو أطياف تدور في فلك الديموقراطية الوليدة. الشارع السوري يترقب الآن الإعلان عن أسماء أعضاء الحكومة الجديدة، التي كُلّف بها الدكتور رياض حجاب، بموجب مرسوم رئاسي، علّ التشكيلة الوزارية الجديدة، تنقذ ما يمكن إنقاذه، من حياة المواطن، التي تحولت بسبب الظروف الاقتصادية السيئة وغياب الأمن، إلى ما يشبه تفصيلاً صغيراً من لوحة سريالية للإسباني سلفادرو دالي، أو مشهداً قاتماً من أحد أفلام المخرج السريالي لويس بونويل.
حوار قصير جمع بين مواطنين في الشارع، ربما يلخّص إلى حد ما، الحالة السيئة التي يعيشها الشعب اليوم، بفئاته وأطيافه المختلفة. لم يعد أحد يسأل عن الصحة أو العمل أو الدراسة، لسان حالهم يقول «هل سمعت أصوات التفجيرات والرصاص ليلة البارحة؟». يسأل الأول فتأتيه الإجابة سريعاً «نعم لم يستطع أحد منا النوم، وخصوصاً بعد التفجيرات الكبيرة والمتكرّرة. اعتدنا على سماع صوت الرصاص، لكن التفجيرات أيقظت الأطفال وهزّت المباني كلها». يحتار المواطن المغلوب على أمره في إيجاد حجج ومبررات، يتحايل بها على أطفاله كي يشعرهم بالأمان والهدوء: «بت أحترف الكذب على أطفالي. لم يعد باليد حيلة، فالرعب والقلق اللذان نعيشهما اليوم، أكبر بكثير من قدرتنا على التحايل عليهما بكذبة بيضاء».
وفي سياق هذا الحديث السريع بين الصديقين، تحضر فصول من الأزمة السياسية، وخطة المبعوث الأممي كوفي أنان، وممارسات الجيش الحر، والتصعيد الأمني، ومجزرة الحولة والقبير، وفقدان الغاز والمحروقات، وغلاء المعيشة المستعر، وتمنيات بدوام الصحة والعافية، مع توصيات بالاتصال الدائم للاطمئنان المتبادل، في حال وجدت الاتصالات بالطبع، كي يطمئن الصديقان على بعضهما البعض، أنهما لا يزالان على قيد الحياة، ليس أكثر ولا أقل.
في سوق باب الجابية الشعبي وسط دمشق، يحتشد أكثر من 40 شخصاً أمام دكان أبو أحمد، الرجل الستيني المختص بصيانة ولحام الأدوات النحاسية. الازدحام الذي عوّق حركة العبور على الرصيف القريب، فتح الشهية للبحث عن إجابات حول جملة من التساؤلات أثارها المشهد الغريب غير المعتاد في مثل هذا المكان. الجميع كان يحمل بيده «بابور كاز» لإصلاحه وإعادته للحياة، بعدما تحول إلى قطعة أثرية تم الاستغناء عن خدماتها منذ أكثر من 30 عاماً. «فقدان قوارير الغاز من مراكز التوزيع، وأسعارها الخيالية التي قاربت 2000 ليرة سورية، حوالي 28 دولاراً أميركياً، في السوق السوداء في حال وجدت بالطبع، كل هذا جعلني أبحث عن بابور الكاز الذي ورثته عن جدتي، وإصلاحه لاستخدامه مجدداً»، تقول سيدة أربعينية أنهكها الوقوف طويلاً وهي تنتظر دورها أمام محل أبو أحمد لإصلاح كنزها الأثري.
أما أبو أحمد فقد رفض الحديث، لانشغاله بالعمل أولاً، ثم لعدم ثقته بالصحافة أو الصحافيين في إحداث تغيير ما على أرض الواقع، لكنه اكتفى بالصراخ قائلاً «لك عمي روحو اكتبو عن أزمة الغاز، احكو عن بهدلة العالم وهية عمتركض ورا قنينة غاز، واتركو العالم تعرف تشتغل».
أحد المواطنين يُخبر عن تجاوزات بالجملة. تحدث عن مراكز توزيع اسطوانات الغاز المنتشرة في مناطق مختلفة من العاصمة دمشق، قائلاً «صدقني الغاز موجود، لكن حجم الأزمة الحاصلة عند المواطن لا تتناسب مع مقدار النقص في مادة الغاز التي أعلنت عنها الجهات المختصة». ولدى سؤاله عن المستفيد من خلق الأزمة، يجيب «سعر أسطوانة الغاز بحسب التسعيرة النظامية لا يتعدى 500 ليرة سورية (أي حوالي 7 دولارات أميركية) بعد زيادة سعرها في الآونة الأخيرة طبعاً، لكنها تباع في السوق السوداء بسعر 1500 حتى 2000 ليرة. اسأل رؤساء مراكز التوزيع من أين تصل أسطوانات الغاز إلى السوق السوداء، تعرف من المستفيد الحقيقي من خلق أزمة الغاز اليوم».
وفي محاولة للحصول على إجابات عن التساؤلات التي أثارها مشهد الجمع المحتشد حول دكان صيانة بوابير الكاز، تخرج إشارات استفهام، مرافقة لإشارات تعجّب أكثر منها، يلخصها أحد زبائن أبو أحمد بالقول ممازحاً، وهو ينتظر دوره حاملاً بابور الكاز، «يا عمي صار الواحد هالأيام فيه يتزوج أربع نسوان ببيت واحد، بس ما فيه يلاقي قنينة غاز وحدة يجيبها على بيتو. تفو على أبو هيك زمن».
أزمة الغاز ترافقت مع دعوات صريحة، أطلقتها مصادر من وزارة النفط السورية، لاستخدام مادة الكاز، بدلاً من الغاز الطبيعي، كحل بديل ومؤقت، ووعدت المواطنين «بحل قريب جداً للأزمة، وعودة الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً قبل أزمة المحروقات». لكن إنقاص وزن أسطوانة الغاز المنزلي كيلوغراماً واحداً من وزنها النظامي، ورفع سعرها بشكل دوري، واستغلال المواطن في السوق السوداء وغياب الرقابة أو المحاسبة، كل هذا لا يبشر المواطن المغلوب على أمره خيراً، أو بحل قريب للأزمة.
في المنطقة الواقعة بين مخيم اليرموك ومنطقة الحجر الأسود، يحتشد حوالي 700 مواطن أمام مركز حكومي لتوزيع اسطوانات الغاز.
المشهد يبدو مشابهاً لمعركة حقيقية، يتبادل فيها الجميع الشتائم، والألفاظ النابية التي توجه إلى مدير المركز وجميع القائمين عليه. يقول أحد المواطنين وقد أحرقت الشمس جبينه واعتصر ثيابه العرق، كما فعلت مع باقي رفاقه المصطفين في الطابور، «أسبوع كامل وأنا أحضر يومياً حاملاً أسطوانة الغاز الفارغة، وأصطف هنا مع الباقين في طابور منتظم، دون أن أصل إلى بوابة البيع». ينظر الجميع بأسى بالغ ويقولون إن «السيارة التي وصلت صباحاً، كانت تحتوي ما لا يقل عن 2000 أسطوانة غاز. أين تتبخر جميعها دون أن يصلنا الدور ولو لمرة واحدة؟».
في عملية حسابية بسيطة، يستطيع بعض المتنفذين في مركز الغاز، جني أرباح طائلة، قد تصل إلى 1000 دولار يومياً؛ اذ قد يحصل كل منهم على 70 أسطوانة من أصل 2000 تصل يومياً للمركز، يمكن تمريرها من الباب الخلفي، عبر وسطاء أو بطرق ملتوية، كي تصل سريعاً إلى السوق السوداء. يجني مهربها ربحاً صافياً عن الأسطوانة الواحدة 1000 ليرة سورية (14 دولاراً أميركياً) لتكون النتيجة 14×70=980 دولاراً أميركياً، في الوقت الذي يصطف به الآلاف أمام مراكز توزيع الغاز يومياً، دون فائدة بالطبع.
لسان حال بعض الجهات الرسمية يقول: «هناك من يعمل على تحويل اسطوانات الغاز إلى عبوات ناسفة بربطها وتجهيزاها بطرق معينة». هذا ما دعا الجهات المختصة إلى محاولة تنظيم عملية التوزيع، بالتسجيل بواسطة دفتر العائلة، في الدوائر الحكومية، والبلديات للحصول على أسطوانة غاز واحدة لكل أسرة، بغض النظر عن عدد أفرادها.
الانتظار والاحتكاك اليومي بين المواطنين في طوابير الغاز قد يتحول في ثواني إلى إشكال أمني تستخدم فيه الأسلحة النارية والبيضاء. هذا ما حدث في الأمس أمام محطة «نهر عيشة» للمحروقات، وأدى إلى سقوط جريح قبل ان تتدخل القوى الأمنية. أمام المحطة يتكرر المشهد نفسه من المواطنين المحتشدين، لكن بأعداد أقل. لافتة عُلقت على احدى المضخات كُتب عليها «يوجد لدينا كاز، سعر اللتر الواحد 40 ليرة سورية».
يروي أبو نزار، صاحب مطعم للفول والفلافل، «الحمد لله لتوفر مادة الكاز، اليوم أجهز بضاعتي وأسلقها على بابور الكاز خارج محلي بسبب الرائحة الكريهة التي يسببها احتراق الكاز، وأنقلها للداخل، وأبقيها ساخنة بواسطة موقد الغاز فقط».
حالة غير طبيعية فرضتها الأزمة السورية على حياة المواطن البسيطة، طالت قوت يومه، وساعدت على استعار نار الفساد من نوع خاص، مع غياب واضح حتى اللحظة لعين الرقيب، المشغولة ربما في أماكن أخرى بعيدة حتى إشعار آخر.



وزارة الاقتصاد تبحث عن حلول


رفعت وزارة الاقتصاد السورية دراسة إلى مجلس الوزراء، بينت فيها الآثار السلبية المترتبة على حياة المواطنين من جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة. واعتبرت أن هذه الآثار السلبية محتملة الوقوع، الأمر الذي دفعها إلى البحث عن اقتراحات للحد منها، بحسب ما أفادت مصادر خاصة لصحيفة «تشرين» السورية.
وأبرز الآثار السلبية، بحسب الوزارة، تتمثل بالفارق بين سعر صرف القطع الأجنبي الرسمي والسعر الرائج فعلياً في السوق، حيث يتم اعتماد السعر المحدد بمصرف سورية المركزي عند دراسة تكاليف المستوردات. كذلك أثّر ارتفاع سعر الصرف في تكاليف المواد المستوردة وارتفاع أسعارها، ولا سيما المواد الغذائية المحلية والأساسية، وهو ما انعكس سلباً على تدني القدرة الشرائية للمواطنين وفرض تهدايدت بالتضخم.