من منكم قد يزوّج ابنته لفلسطيني؟ هل سيستطيع والد الفتاة نسيان فكرة أن ابنته ستتزوج من لاجئ وأحفاده سيصبحون لاجئين أيضاً؟ من منكم يمكنه أن يمحو من رأسه الصورة النمطية عن ابن المخيم: الأسمر، مجعد الشعر، الأزعر، الحرامي، أو الإسلامي الجهادي. من منكم يقبل أن تعيش ابنته في مخيم، أي مخيم كان؟أما الامتحان الاصعب فهو سؤالك عن الفكرة الاولى التي تتبادر إلى ذهنك عند قراءتك العبارة الآتية: عين الحلوة. طبعاً كل ما ستتذكره هو ما رسمته لك وسائل الاعلام. بقعة جغرافية مليئة بالسلاح، يقطنها خارجون عن القانون، وفي أزقة المخيم يعيش مطلوبون يكرهون الجيش. هذا ما ستقوله.

وبالطبع لن تقول إنه مكان على الأرض مساحته كيلو متر مربع واحد يعيش فيه 80 ألف شخص لا يحظون بأيّ حقوق. كم عدد الاشخاص الذين يخافون مجرد ذكر اسم عين الحلوة؟ وكم هو عدد الاشخاص الذين يخافون زيارة المكان لمجرد خوفهم من الاسم؟
أما الأسوأ فهو السؤال الآتي: لماذا الفلسطيني هو دائماً الـ«كذاب»؟ لماذا لا تصدق روايته للأحداث التي تجري معه تحديداً؟ لماذا نصدق الدولة ومؤسساتها، مع العلم بأن بنيتها قائمة على فن التكاذب؟ في بيان الجيش اللبناني بتاريخ 15/6/2012 قال الجيش «إثر قيام حاجز تابع للجيش عند أحد مداخل مخيم نهر البارد بتوقيف شخص لقيادته دراجة نارية من دون أوراق قانونية، تجمهر حشد من الأشخاص وأقدموا على رشق عناصر الجيش بالحجارة». الجيش اللبناني أخبر جزءاً من القصة، نصف الحقيقة. ما لم يذكره بيان الجيش أن عناصره لاحقت الشاب إلى منزله داخل المخيم المفتوح أمامه. وما لم يقله بيان الجيش هو سبب «تجمهر حشد من الاشخاص ورشق عناصر الجيش بالحجارة». هل هو حب رمي الحجارة فقط؟ بالطبع لا. لأن السبب ببساطة هو أن بعض عناصر الجيش أقدموا على «دفع والدة الشاب ورميها على الأرض»، ينقل إليك واحد ممن كانوا ضمن «حشد من الأشخاص». ومن يعرف العقلية المحافظة لابن المخيم يفهم ما يعنيه أن تدفع امرأة نحو الأرض. هذا التصرف هو ما أجّج مشاعر الناس هناك استباحة للكرامات.
حسناً، يمكننا أن نفهم أن الجيش تحت وطأة التخوف من مخطط لضربه. ونفهم أن عناصره خائفون ومقتنعون بوجود مؤامرة لضربهم واستهدافهم. لكن ما لا يمكن استيعابه هو سياسة الضرب بيد من حديد لفئة هي الأكثر تهميشاً، ليس بين اللبنانيين فقط، بل بين الفلسطينيين أنفسهم، وأقصد أبناء نهر البارد. كيف يمكن الجيش أن يكون كما قال محمود درويش في أحد أبياته «ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا؟» أيكون ذلك، كما قال الشاعر الراحل تماماً «دُونيّة المُتعالي، وغطرسة
الوضيع»؟
ما جرى في البارد هو تفجّر كبت خزّن على مدى خمس سنوات: إهانات على الحواجز، وبطء في إعادة إعمار المخيم، وعيش في علب الحديد بين الجرذان والصراصير. ما جرى في نهر البارد هو خروج أبناء «البراكسات» ليعلنوا أنهم ما عادوا يطيقون العيش في مستوعبات حديدية. لكن رغم كل ما جرى في حفلة الجنون المتنقلة بين البارد وعين الحلوة، علينا أن نشكر الله لأن 80 ألف شخص نصفهم مسلح، لم يعلنوا العصيان انتقاماً لكرامتهم الإنسانية ورفضاً لواقع مذّل لا يستطيع أعقل العقلاء تحمّله أكثر من
ساعتين.