دخلت إسرائيل مرحلة المراوحة التي عادة ما تسهم في تآكل قدرة الردع الإسرائيلية، وتتوّج بخيار من اثنين، إما الانتقال إلى خيار عسكري أوسع، أو الانكفاء والقبول بصيغة تسمح بوقف إطلاق النار. وما يفاقم من خطورة المراوحة على تل أبيب أنها تزامنت مع اقتراب استنفاد الخيار الجوي، الذي يؤكد المعلقون الصحافيون والخبراء أنه غير قادر على إخضاع فصائل المقاومة التي أثبتت كفاءة عالية وقدرة على مواصلة إطلاق الصواريخ بالرغم من أن أجواء غزة ممتلئة بكافة أنواع الطائرات.
ورأى المعلق العسكري في صحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، أن التلويح بالهجوم البري وبقرار تجنيد 75 ألف جندي، من أجل فرض اتفاق وقف نار تام على حماس، له في الواقع تأثير في اتجاه معاكس على الرأي العام الإسرائيلي، وعلى القادة في البلاد، موضحاً أن خطوة كهذه تلقي بثقلها على الاقتصاد، وتفاقم من حالة التوتر وسط المدنيين (الإسرائيليين) وجنود الاحتياط أنفسهم، وتنتج ضغطاً على القيادة للتصديق على العملية البرية، لجهة أن جنود الاحتياط لا يستطيعون الجلوس لفترة طويلة في الجنوب من دون الانطلاق إلى العملية، وخصوصاً أن وجودهم في مناطق مفتوحة يمكن أن يعرضهم للإصابات.
ورأى هرئيل أن العمليات العسكرية نفذت بدون أي عقبات فعلية، وتمكنت من تحقيق إنجازات مثيرة للانطباع، إلا أنه عاد ودعا إلى الإقرار بأنه لم يسجل أي تراجع فعلي في حجم الصواريخ التي يجري إطلاقها من غزة، كما أن الجيش يجد صعوبة في معالجة صواريخ الكاتيوشا على مدى 45 كيلومتراً، التي تربك الحياة في مستوطنات الجنوب. وتابع «بالرغم من أن القبة الحديدية تمنح صانع القرار في إسرائيل وقتاً أطول، في المناورة، لكونها تقلص بشكل كبير عدد الإصابات في صفوف المدنيين، إلا أنه لا حصانة مطلقة». وحذَّر من أنه كلما طالت المعركة، ستصبح الجبهة الداخلية، بالتدرج، أكثر انكشافاً وتعرضاً للإصابة، وسيرتفع مستوى الضغوط الدولية من أجل إنهاء العملية. كذلك حذر من أنه في حال «إصرار الطرف الآخر» في المفاوضات، فستنجر إسرائيل إلى تنفيذ عملية برية، فقط، كي لا تظهر أنها مردوعة.
أيضاً، أكد المعلق السياسي في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، ناحوم برنياع، أنه لا نتنياهو ولا باراك، ومعهما رئيس الأركان (بني غانتس) وبقية قادة هيئة الأركان، يؤمنون بفائدة العملية البرية ولا يريدونها، مضيفاً أن ليبرمان أيضاً قصد من وراء الحديث عن أن من يبدأ بالعملية البرية عليه أن يمضي «إلى النهاية»، التهديد لا التنفيذ. لكن برنياع عاد وأوضح أن ليبرمان لم يبين نهاية من: نهاية حماس أم نهايتنا؟
بدوره، رأى رئيس مجلس الأمن القومي السابق، اللواء غيورا ايلاند، أنه يوجد ثلاثة بدائل تتصل بالهدف من العملية العسكرية؛ إما الاكتفاء بتحقيق الردع، أو إضافة إلى ذلك الإضرار الشديد بالترسانة القائمة وبقدرتهم المستقبلية على التزود بالصواريخ من جديد، أو إسقاط حكم حماس، مؤكداً أن الاختلاف بين الأهداف له أثره البعيد على طبيعة الخطوات العسكرية، وخصوصاً في ما يتعلق بالعملية البرية التي قد لا تكون ضرورية إذا ما تم الاكتفاء بالهدف الأول.
وأكد ايلاند أن استمرار العملية الجراحية عبر مواصلة مهاجمة الأهداف العسكرية فقط لن يحقق الهدف الأول، لأن الثمن الذي يدفعه الطرف الآخر، وإن كان مرتفعاً، لكنه محتمل. وفي ضوء ذلك، تبقى إمكانيتان مختلفتان إحداهما عن الأخرى؛ الأولى تنفيذ عملية برية، والثانية مهاجمة كل هدف ذي صلة بمؤسسات السلطة في غزة، بما في ذلك الوزارات الحكومية، ومراكز الشرطة والجسور ومنشآت الكهرباء، مؤكداً أن تبنّي العملية البرية سبيلاً وحيداً ممكناً لتوسيع العملية، سيكون خطأً.
وكان لافتاً جداً ما أوضحه ايلاند، أنه كلما ارتفع مستوى الضغوط على إسرائيل لوقف العملية، كان ذلك أفضل بالنسبة لها، والسبب أن إسرائيل لا تريد مواصلة الحملة العسكرية لفترة طويلة، وبالتالي يمكنها أن تتذرع بالضغوط الدولية والقول «نعم ولكن لنا شروط»، التي تتراوح بين حدّ أدنى يتمثل في الاكتفاء بوعد من حماس بالمحافظة على الهدوء، وحدّ أقصى يتمثل في المطالبة بآلية دولية تضمن ألا تُنتج ولا تدخل إلى غزة أسلحة صاروخية، وحدّ أوسط يتمثل في تعهد مصري أمام الأسرة الدولية بأن تكون ضامنة للهدوء، وأن تعمل بنشاط أكبر لمنع نقل السلاح من مصر إلى غزة.
في المقابل، رأى ايلاند أن إسرائيل ستوافق على الاعتراف بحكم حماس في غزة، والموافقة على توسيع نشاط المعابر وإلغاء الحصار البحري، شرط ألا يتم الإبحار من غزة وإليها إلا من دول الاتحاد الأوروبي.
أيضاً، رأى المحلل السياسي في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، شمعون شيفر، أن إسرائيل باتت تدرك أنه لم يعد أمامها خيار سوى الذهاب باتجاه تهدئة طويلة الأمد، بعدما استنفدت الطاقة والفائدة المرجوة من عمليات القصف الجوي، وأنه لا يمكن مواصلة العدوان بالطريقة الحالية عبر تبادل إطلاق الصواريخ في مقابل قصف جوي إسرائيلي. ورأى أن إسرائيل تدرك أن العملية البرية غير مقبولة من قبل الرئيس الأميركي باراك أوباما، ورؤساء أوروبا، كما أن ذلك سيحشر النظام المصري، فضلاً عن احتمال أن يؤدي ذلك إلى احتمال سقوط النظام الأردني.
وشدد شيفر على أن أي تسوية لا تتضمن جعل غزة منطقة منزوعة السلاح وتحت إشراف دولي، مقابل رفع الحصار وعدم المس بقادة حماس، ستكون غير ذات معنى، وستمثّل مقدمة للجولة المقبلة بين الطرفين تكون حماس خلالها قد تزوّدت بأسلحة أكثر تطوراً.