«انتصرنا»، كادت إيقاعات الأغاني وكلمات نجوم الفضائيات تعلن هذا الانتصار على الإرهاب. الكاتدرائية الكبيرة في العباسية تحوّلت إلى مسرح استقبل استعراض الانتصار على الأعداء، مسرح كامل الأوصاف، بدراما مؤثّرة عن مشاعر الوحدة الوطنية، والحب بين المسلمين والمسيحيّين في مصر، وديكور من شموع تملأ الساحة الخارجية، وتحيط بالمقاعد وبالعلم الذي يتوسط المكان كأنه إعلان عن وجود مهدّد، وفي خلفية الصورة، صوت عفاف راضي الناعم يغنّي لمصر «هي أمّي» ونيلها «هو دمي»، بينما يتغزّل الجميع بـ«زمن جميل» غائب، يرجو الجميع استعادته.استعراض يقوده الإعلام، الذي حُشد بأسلوب حربي، حيث ضُمّت كل القنوات الفضائية الحكومية والخاصة، وتزامل نجوم القنوات في برنامج واحد اسمه: «المصريون». غاب المعدّ والمؤلف والمخرج. كلهم وُضعوا تحت اسم واحد: «أولاد مصر». كأنه فناء الشخص في وطن لحظة الأزمة.
مزاج حروب فعلاً، كان مؤثراً أكثر من حضور ابنَي الرئيس قدّاس الميلاد المجيد، وشكر الأنبا شنودة للرئيس حسني مبارك ٣ مرات في خطبته المعتادة، واختيار علاء مبارك ليكون أول الصاعدين إلى منصة الاحتفال.
هذه صور يمكن أن تكون تقليدية. المناخ الحربي ونبرة الشحن ناجحان في مخاطبة منطقة في المشاعر لا تصلها الأفكار، منطقة غرائز أولية، تؤدّي الأغاني والخطابات الوطنية إلى إيقاظ الخوف البدائي فيها لدى الجماعة، ترسم صورة للعدو، وجيوشه على الأبواب.
لا يهم هنا أنه مناخ يستعيد نفايات الخطاب الوطني، لكنه بالنسبة إلى ضبّاط الإيقاع في النظام حرب ناجحة مجرّبة في تجييش المجتمع خلف النظام، ومداواة لجروح اللحظة.
إنه التلفزيون يقود عملية ترميم، صاحَبتها عمليات إطفاء غضب الأقباط، عبر رسائل مباشرة من البابا والأساقفة، ورسائل في العالم الافتراضي تطالب: «..معاً ضد طاعة الأب... معاً ضدّ التظاهرات». رسالة على «الفايسبوك» ترسم صورة للمسيحي الصالح «المسيحي بجدّ يسمع كلام أبوه..». وبعد رسم الصورة يفصح عن الغرض منها: «… وأبوك بيقولك كن حكيم متعملش تظاهرات».
صناعة الصور رائجة في ليلة الميلاد، التي جرت في القاهرة بحراسة الأمن، الذي بدا مسيطراً ومتحكّماً في إيقاع المدينة كلها. العباسية مقر الكاتدرائية، أصبحت منطقة خالية من السكان إلا من يحصل على موافقة أمنية بالعبور، والمناطق المحيطة بالكنائس تحوّلت الى مربّعات أمنية.
الدولة أعلنت من خلال استعراضها، ذي الطابع الحربي في الإعلام والاحتفال، أنها وحدها في الحرب، كل المجتمع جمهور، يقبل أن ينتقل إلى الكورس، لكن لا يُسمح له بالمشاركة الفعالة في ترميم العلاقات المنهارة بين الأقباط والدولة.
الصوت الوحيد المسموح به هو صوت جوقة إعلامية تقدّم مناوشات وتنادي بمطالب كلها تدور في فلك فتح ملفات قديمة أهمها: بناء الكنائس.
المجتمع المدني مهمّش هنا، والمعارضة محاصرة في مقارّها، لا يُسمح لها بالنزول إلى الشارع، ولا يُسمح هنا إلّا بخطاب عاطفي، لا يقترب من فكرة بناء الدولة المدنية.
الدولة استدعت أيضاً جيش دُعاتها في المؤسسات الرسمية أو غيرها في الفضائيات. وكان لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب موقع مهمّ في نقد سياسات السنوات الأخيرة، التي أوصلت مصر إلى حالة تصحّر مرعبة، مؤكّداً أنّ: «حصة الكيمياء الحقيقية مفيش، وحصة الإنكليزي الحقيقية مفيش، وحصة الدين الحقيقيّة مفيش».
الطيب يفجّر قنبلة من داخل النظام ترى أن «العملية التعليميّة بالفعل فيها فراغ، كما أن الإعلام فيه فراغ، وأيضاً مستوى التعليم في الجامعة فيه فراغ».
شيخ الأزهر أعلن إنشاء كيان من رجال دين مسلمين ومسيحيين، اسمه «بيت العائلة المصرية»، مهمّته استعادة بعض الأرض، حيث يرى أنّ «المواطنين اختُطفوا على أيدي هؤلاء الدعاة لغياب دور الأزهر وضعفه في الساحة، وهو ما أظهر أشياء تخالف الإسلام»، مؤكّداً أن جميع المساجد التابعة لوزارة الأوقاف يحصل أئمتها على تراخيص، لكنه لفت إلى المساجد الموجودة تحت العمارات، التي بناها أصحابها للتهرب من الضرائب في الأساس، لا لنشر الدين الوسطي، قائلاً إنها «تمثّل مصدر قلق لأنه لا يُعرف ما يقال فيها».
وانضمّ رئيس الوزراء أحمد نظيف إلى شيخ الأزهر ليعلن خططاً لتحقيق «المساواة وعدم التفريق بين أبناء الشعب المصري»، في اعتراف شبه رسمي بالتمييز الذي يتعرض له الأقباط.
ووعد نظيف، في استكمال لأوبريت «الانتصار»، بأن تتحرك الحكومة «في هذه المرحلة لتأكيد فكرة المساواة وعدم التفرقة، وترجمة ذلك عملياً فى إطار تشريعى وتنفيذي». وطالب المصريين «بدعم توجّهات الحكومة الجديدة، وتبنّي ثقافة قبول الآخر».