صنعاء ــ تعرف الإدارة الأميركية جيداً مع أيّ نوع من الرؤساء تتعامل في اليمن. فهي تعلم كم هو «غريب ونكدي، متقلب لا يستقر على رأي»، بحسب ما جاء في تقارير للسفير الأميركي السابق في صنعاء ستيفن ستيش وكشفها موقع «ويكليكس». وهي تدرك جيداً أنه رجل يتعمد إدارة بلاده عن طريق افتعال أزمات، أو استخدام بعض الجماعات لغاية محددة، مثلما حدث عند استعانته ببعض المجاهدين القدامى العائدين من أفغانستان، وإشراكهم في قوات جيشه لحسم حرب صيف عام 1994 ضد الجنوب، قبل أن ينقبلوا عليه، معيدين التواصل بالتنظيم «الأم»، واضعين لائحة أهداف جديدة ينبغي لهم تحقيقها، وعلى رأسها مهاجمة مصالح الدول «الكافرة» في المنطقة.أهداف تُرجمت سريعاً بضرب المدمرة الأميركية «كول»، خريف عام 2000، كان من نتائجها ظهور أصوات جادة في الإدارة الأميركية نادت بغزو اليمن بعد أحداث 11 أيلول، فيما رد صالح بالسفر الى واشنطن لكي يعلن بلا مواربة أنه على استعداد للتعاون غير المشروط.
استعداد للتعاون تجد من أجله الإدارة الأميركية نفسها مضطرة إلى التعامل مع صالح، ولا سيما في ظل عدم وجود بديل جاهز يمكنه حكم اليمن، في وقت بدأت فيه نذر الفوضى تلوح مهددةً الاستقرار الظاهري القائم في البلاد، في ظل انطلاق مسيرات شبه يومية تطالب بإسقاط صالح، وتنامي الحراك الجنوبي الذي لم تتعامل معه الإدارة الأميركية بجدية كافية منذ البداية، إلا عندما لم تعد مناطق يمنية في الجنوب خاضعة لسيطرة الدولة. غياب للدولة سمح بتكوين بيئة ملائمة لتنظيم «القاعدة» «هاجس الولايات المتحدة الأول»، كي ينظم صفوفه، وخصوصاً في مناطق «أبين» و«شبوة»، التي ينحدر منها رجل الدين اليمني الأميركي أنور العولقي، الذي تتهمه واشنطن بأنه المحرض الأول على تنفيذ عدد من الضربات في عمق الولايات المتحدة، بدءاً من حادث إطلاق النار في قاعدة «فورت هود»، مروراً بمحاولة تفجير الطائرة فوق ديترويت عشية عيد الميلاد عام 2009، ووصولاً إلى حادثة الطرود المفخّخة في العام الماضي.
ووسط هذه الأجواء، لم يكن أمام الإدارة الأميركية سوى التدخل على طريقتها في اليمن، وهو ما ظهر في عمليات كانون الثاني 2009، التي نفّذت خلالها ضربات جوية استهدفت تنظيم «القاعدة»، بمباركة يمنية، كشفتها أيضاً واحدة من وثائق «ويكيليكس». تدخّل لم يتوقف عند الضربات الجوية بين الحين والآخر، بل امتد أيضاً ليطاول منع تنفيذ قرار العفو الذي أصدره الرئيس اليمني، بحقّ الصحافي اليمني عبد الإله شائع، الذي وقع ضحية الكشف عن هذه الضربات، وتعرّض للخطف قبل أن يصدر حكم بسجنه خمسة أعوام، إضافةً إلى تحديد إقامته لعامين بعد انتهاء مدة الحكم.
واتصال أوباما بصالح لطلب إبقاء اعتقال شائع أكّده، بشكل غير مباشر، تصريح السفير الأميركي في صنعاء قبل يومين، جيرالد فايرستاين، بقوله إن شائع «متورط في دعم منظمات إرهابية»، مشدّداً على أن «القضية ضد السيد شائع لم يكن لها أيّ علاقة بالإعلام أو بحرية الرأي».
تصريح السفير أتى في وقت وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى أداء دور المنقذ للنظام اليمني، مع تنامي الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإسقاط صالح، مدفوعةً بثورتي مصر وتونس.
ووسط مخاوف من لحاق صالح بنظيريه التونسي والمصري، تسعى الإدارة الأميركية إلى اقتراح مخارج تسهم في التخفيف من حدة الاحتقان الشعبي المسيطر على الأجواء السياسية، وخصوصاً بعد توقّف الحوار بين أحزاب اللقاء المشترك والحزب الحاكم. والمفارقة أنّ واشنطن رأت أن الكرة في ملعب المعارضة، ولذا لم تتردّد في إبداء غضبها من أحزاب المعارضة، مطالبةً إياهم بالتعاون مع صالح، الذي سارع تحت وطأة التظاهرات إلى إعلان تخلّيه عن مخططات سابقة لتأبيد حكمه وتوريثه لنجله. ظهرت الولايات المتحدة كأم أكل القلقُ قلبها وهي ترى مصير «أولاد مشاغبين»، وقد اقتربت مواعيد اختباراتهم المدرسية ولم يراجعوا دروسهم بعد، تركوا ما عليهم وخرجوا لتسيير تظاهرات احتجاجية في شوارع العاصمة، ولا بد من إعادتهم إلى البيت بأي ثمن. وظهر غضبها هذا متمثّلاً في بيان نشره الموقع الإلكتروني لسفارتها في صنعاء وحمل لهجة حادة، بعدما «دعت أحزاب المعارضة إلى تجنب الأعمال الاستفزازية، والتجاوب البنّاء مع مبادرة الرئيس صالح لحل الخلافات عبر الحوار والتفاوض». كما طلبت العودة إلى طاولة الحوار الوطني وذلك لـ «التوصل إلى اتفاق يخدم الشعب اليمني ويحظى بترحابه»، بالتزامن مع التأكيد على متابعة السفارة المثقلة بالقلق للتظاهرات التي جرت يوم الثالث من شباط، والتي لاحظت فيها الإدارة الأميركية أن الأجهزة الأمنية اليمنية «بذلت جهوداً كبيرة لضبط النفس مع المتظاهرين».
واللافت في توقيت صدور هذا البيان أنه أتى بعد ساعات قليلة من اجتماع السفير الأميركي بصنعاء، بعدد من قادة أحزاب المعارضة، وتأكيده أهمية أن تبقى قيادة الحركات الاحتجاجية في الشارع بيد الأحزاب لا بيد الشارع بمفرده، وسط محاولات الإدارة الأميركية التأكيد للمعارضة أنها ستكون الضامن لتنفيذ ما يجري التوصل إليه بين السلطة والمعارضة في حال استئناف الحوار.
هذا الموقف رده الأمين العام لحزب التجمع الوحدوي اليمني عبد الله عوبل في حديث لـ «الأخبار» «إلى حالة التوتر التي تعيشها الإدارة الأميركية نتيجة للأحداث المتلاحقة في تونس ومصر»، مؤكّداً أن اللقاء مع السفير الأميركي «كان جيداً بصورة عامة وقدمت فيه أحزاب المعارضة وجهة نظرها من أجل تأمين أجواء صحية لعودة الحوار مع الحزب الحاكم من النقطة التي توقف عندها».
وكما يبدو فقد استجابت المعارضة اليمنية للتدخل الأميركي، لكن بطريقتها، حيث أعلنت في مؤتمر صحافي أول من أمس أنها تنظر إلى مبادرة الرئيس صالح «كأفكار عامة تحاول أن تبحث عن مخرج من المأزق الذي وضع فيه الحزب الحاكم نفسه»، نافيةً وجود حوار، من الأساس، جامع لمختلف ألوان الطيف السياسي في البلد. وأكدت أن الحوار يجب أن يجري ضمن شروط ويتجه نحو تغيير النظام السياسي، وهي مسألة «يجب أن تشترك فيها كل فعاليات المجتمع».



القرار بيد الشارع لا المعارضة

ظهر صوت الشارع اليمني عالياً بعد تنحّي الرئيس المصري، حسني مبارك، وكان ذلك عبر خروجه بلا دعوة مسبقة من أحزاب اللقاء المشترك التي حاولت النأي بنفسها عمّن خرجوا. فعّاليات تركّزت في العاصمة صنعاء كان أبرزها تظاهرة قصدت القصر الرئاسي يوم أول من أمس، لكن جرى التصدي لها عن طريق عناصر تابعة للحزب الحاكم، مسلّحة بعصيّ كهربائية وتحمل صور الرئيس علي عبد الله صالح (الصورة)، في الوقت الذي استمرت فيه مجموعات أنصار صالح في احتلال ساحة ميدان التحرير، وإقامة مخيمات ضخمة لقطع الطريق أمام محتجين لاستخدام الساحة كمنطقة تجمّع لهم. كذلك تستمر اعتصامات مشابهة في مدينة تعز (جنوب صنعاء)، وهي أكبر مدن اليمن من حيث عدد السكان، وتعرف بالعاصمة الثقافية لليمن، وتمثل نقطة قلق كبيرة للسلطات، لكون المظاهر الاحتجاجية التي تخرج منها لا تهدأ بسهولة، ما دفع قوات الأمن أول من أمس لاستخدام الرصاص الحي لتفريق اعتصام أقيم بمنطقة «صافر»، انتهى باعتقال نحو 150 ناشطاً.
في المقابل، أدت مطاردة موالين للحكومة اليمنية لآلاف المتظاهرين المنادين بالإصلاحات الذين خرجوا أمس في العاصمة اليمنية إلى إصابة 17 شخصاً على الأقل.