دخلت مدينة مصراتة الليبية التاريخ من أوسع أبوابه، بعدما باتت المعقل الأخير للمعارضة المسلّحة في المناطق الغربية القريبة من العاصمة طرابلس. ربما زاد من تعاسة هذه المدينة الساحليّة التي تمطرها كتائب الزعيم الليبي معمر القذافي يومياً بالقذائف، ما ورد من أخبار عن استخدام قنابل عنقودية محظورة منذ عام 2010 ضد الأهالي.وقد يكون وصف مصراتة بـ«ستالينغراد»، حسبما جاء في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، أمس، خير معبّر عن معاناة هذه المدينة المقاومة التي تقول الأنباء الواردة منها إن الثوار هناك أكثر انضباطاً وتنظيماً من غيرهم في المدن الشرقية.
وربما كان إصرار القذافي على تركيع هذه المدينة، التي كانت في طليعة المدن المناضلة زمن الاحتلال الإيطالي، بسبب موقعها الاستراتيجي في الغرب بين طرابلس (210 كيلومترات غرباً) ومسقط رأس العقيد الليبي مدينة سرت (شرقاً 170 كيلومتراً).
ولعل أهمية مصراتة أنها مدينة تقع على ارتفاع ستة أمتار عن مستوى البحر على ساحل المتوسط عند الحافة الغربية لخليج السدرة، ويبلغ عدد سكانها قرابة 400 ألف نسمة، ما يجعلها المدينة الثالثة في ليبيا بعد طرابلس وبنغازي.
هذه المدينة المعروفة بـ«ذات الرمال» لوجود حزام من الكثبان الرملية العالية المتكونة من عمليات المد البحري عبر آلاف السنين، تبعد عن معقل الثوار في بنغازي نحو 820 كيلومتراً، ما يجعل إمداد قاطنيها في ظل الحصار بالأغذية والأسلحة من سابع المُستحيلات.
ولعل أهميتها الاستراتيجية تمثّل رافداً إلى جانب أهميتها الاقتصادية وخصوبة أرضها الزراعية؛ إذ يقع فيها مجمّع الحديد والصلب الوحيد في البلاد، وهو مركّب ضخم يعمل فيه أكثر من ستة آلاف مستخدم. كذلك تتميز بوجود عيون مياه كبريتية تستخدم في علاج بعض الأمراض المتعلقة بـالبرد والروماتيزم.
ويبدو أن العامل القبلي أدى دوراً، إلى جانب القمع والحرمان وغياب الحريات، في إذكاء النزاع بين قبائل «الأهالي» و«الكوارغلية» التي تسكن هذه المنطقة، وبين قبائل القذاذفة وأبناء سليمان التي توالي الزعيم الليبي.
ثمة عامل آخر، تمثّل بصلابة أهل هذه المدينة التي تُعَدّ واحة حريّة وسط صحراء القهر، التي تهيمن عليها قوات السلطة في المناطق الغربية من الجماهيرية. عامل يمكن اختصاره بما جرى يومي 19 و 20 شباط الماضي، بعد يومين من إعلان ثورة 17 فبراير، حين تولى أهالي مصراتة السيطرة على كل مرافق المدينة، وطردوا كل التابعين للنظام وهيئاته السلطوية.
فعداء أبناء مصراتة يبدو واضحاً للسلطة، ويمكن أن يعبّر عن ذلك بيان نشره موقع «مصراتة اليوم» عقب اندلاع الثورة مباشرة عن القضاة والمحامين في المدينة. بيان أكد «رغبة المجتمعين في الحفاظ على المدينة من الفساد والمفسدين» وتأكيدهم «المحافظة على وحدة الدولة الليبية والترابط مع كل المناطق الأخرى في شرق ليبيا وغربها وجنوبها».
وتميز أهالي مصراتة بوعي تجسد في اتفاقهم على تأليف لجنة مؤقتة تتولى إدارة شؤون المدينة وتسييرها، تتكون من أعضاء الهيئات القضائية والمحامين هناك.
على المستوى العملياتي، وفيما تستمر عمليات إجلاء الجرحى والمدنيين من طريق البحر من المدينة المحاصرة، تعرضت مصراتة لأكثر من 200 هجوم على مدى اليومين الماضيين، ما أدى إلى مقتل 40 شخصاً وجرح 105 آخرين، جراء تساقط الصواريخ وقذائف المدفعية على المدينة بعشوائية أحياناً، فتدمر البيوت وتقتل المدنيين وتحرق المصانع.
ويبدو أن الأنباء عن القنابل العنقودية وقصف المدينة، لا يزال موضوع تضارب بين المعارضة والسلطة، التي نفى مسؤول عسكري تابع لها في طرابلس استخدام القوات المسلحة النظامية لبلاده «الأسلحة الثقيلة أو القنابل العنقودية» في مواجهتها الثوار.
في أي حال، تبدو «أم الرمال» نقطة ينظر إليها العالم على أنها حجر الزاوية في خضم المشهد العسكري المُعقّد على الساحة الليبية، فلا الثوار قادرون على الخروج من تحت الحصار نحو سرت التي إن سقطت في أيديهم انكسرت شوكة القذافي، ولا رفاقهم في بنغازي قادرون على التواصل معهم لوجستياً وبشرياً بسبب بُعد المسافة ومواقع كتائب السلطة التي تنتشر من البريقة حتى حدود المدينة. لذلك، تبدو مصراتة يتيمة المعارضة في الغرب، بعد سقوط الزاوية وصبراتة بأيدي السلطة.