بدأت اللعبة الجدية بين الولايات المتحدة الأميركية والشريك المكروه أبداً، «سوريا بشار الأسد». الجولة الأولى ضغوط نفسية وعقوبات مالية واقتصادية على بعض رموز النظام والمقرّبين من الرئيس. تحريك للأمم المتحدة تحت شعار الحرص على حقوق الإنسان تواكبه حملة هجومية أوروبية لزيادة مستوى الضغط. الإدارة الأميركية لا تريد لشريكها أن يهزم الآن وينسحب، لا لشي سوى للرغبة في متابعة اللعب بهدوء ولغياب البديل منه حالياً.
«لا تزال أمامهم فرصة لتحقيق أجندة الإصلاح»، وضعت الإدارة الأميركية رهانها على الطاولة في 6 أيار الماضي.
وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أدانت منذ أيام سياسة العنف المستمرة من النظام السوري تجاه المحتجين وعبّرت عن قلقها من ازدياد عدد القتلى المدنيين، وحذّرت السلطات السورية من «عواقب» أفعالها، لكنها لم تنطق بـ«الكلمة السحرية» بعد وتطالب برحيل الرئيس السوري.
البيت الأبيض صعّد لهجته أيضاً تجاه «الحكومة السورية» وأعلن صراحة: «الولايات المتحدة والمجتمع الدولي سيحددان علاقاتهما مع سوريا وفق الأفعال الملموسة التي ستقوم بها الحكومة السورية» (جاي كارني، 6 أيار 2011).
رهان أميركي على بشار الأسد حتى اللحظة، بغية الحفاظ على بعض المصالح المرتبطة بوجوده لاعباً أساسياً في المنطقة من دون التخلي عن «الأمل» بالتخلص منه والإتيان بنظام «صديق» من خلال الإصرار على تطبيق جدّي للإصلاحات في البلد.
التصعيد السياسي الأخير للإدارة الأميركية لم يخفف من الضغوط الداخلية الأميركية على باراك أوباما، التي تدعوه لإعلان موقف حازم يطالب برحيل الأسد فوراً. دعوات أخرى تطالب بتوسيع رقعة العقوبات لتشمل الرئيس الأسد شخصياً، وأخرى ـــــ تتكرر منذ بداية الأحداث ـــــ وتتعلق بسحب السفير الأميركي من سوريا.
أدرك الجميع أن مجموعة العقوبات المالية الأميركية التي اتخذت بحق بعض القادة السوريين ليست ذات أهمية، ولن تمنع الأسد من الاستمرار في سياسته، ولن تضيّق عليه الخناق لدرجة إجباره على التنحّي. علت الصرخة من جمهوريي مجلس الشيوخ، الذين طالبوا أوباما «بالإعلان صراحة وبما لا لبس فيه، أن على الأسد أن يرحل، كما فعل مع الرئيسين معمر القذافي وحسني مبارك... لأن حكومة الأسد فقدت شرعيتها» (بيان جون ماكين وليندسي غراهام وجو ليبرمان في 29 نيسان الماضي). من جهته، صعّد السيناتور ليبرمان لهجته منذ أيام، وقال إنه «حان وقت رحيل الأسد». لكن معظم هؤلاء المنتقدين ما زالوا يعوّلون على «العواقب» التي ذكرتها كلينتون في تصريحها الأخير بشأن سوريا، من دون الاطلاع على ما تتضمّنه تحديداً. مسؤول لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السيناتور جون كيري، الذي انتُقد كثيراً بسبب مواقفه «الناعمة» تجاه النظام السوري مع بداية الأحداث، صعّد لهجته أخيراً مواكَبةً للتصعيد السياسي الرسمي، وأعلن أن «ما يقوم به النظام في سوريا غير مقبول، وأنه يجب زيادة الضغط على بشار الأسد للحدّ من القتل العشوائي». مجدداً، لا مطالبة بالرحيل.
أسئلة كثيرة طرحها محللون أميركيون عن التباين في ردّ فعل أوباما بين القذافي والأسد: «لماذا سارع أوباما إلى إعلان فقدان شرعية نظام القذافي، وحشَدَ قوى دولية لإسقاطه بالحسم العسكري، بينما هو لا يزال متردداً بشأن بشار الأسد؟»، سأل البعض ممن اتهموا أوباما بانتهاج «سياسة شخصية تجاه بعض البلدان والرؤساء». حتى إن بعض هؤلاء اتهم المجتمع الدولي والاتحاد الاوروبي أيضاً بـ«التواطؤ مع الرئيس الأميركي بانتهاج سياسة استثناء الرئيس الأسد شخصياً من العقوبات، وعدم تقديمه إلى المحاكم الدولية بتهمة انتهاك حقوق الإنسان». بعض المتفائلين رأوا في قرار تجميد أرصدة عدد من الشخصيات السورية واستثناء الأسد منها «رهاناً أميركياً ـــــ أوروبياً كبيراً على خلق انشقاق بين أركان السلطة السورية وانقلاب بعض المقربين من الأسد عليه».
لكن هل يمكن أوباما أن يتصرف مع سوريا الأسد كما فعل مع ليبيا القذافي؟ «إن صحّت في ليبيا، فلمَ لا تصحّ في سوريا؟»، يسأل الناطق السابق باسم الخارجية الأميركية فيليب جي كراولي. مساعد كلينتون السابق يحسم بأن لا خيار عسكرياً أميركياً تجاه سوريا، لكنه يسأل عن خيار آخر هو إسقاط الشرعية عن الأسد كما القذافي. كراولي يقيم مقارنة لتشبيه أفعال الأسد بأفعال القذافي، ويقول: «بات من الصعب التفريق بين خطايا القذافي وتلك التي يقترفها الأسد». المسؤول في الخارجية الأميركية (حتى شهر آذار الماضي) يشرح أن الإدارة الأميركية أوضحت مراراً أن بعض الأفعال التي تقرر تنفيذها قد تختلف بين دولة وأخرى. لكنه يذكّر بأن «الأسد كالقذافي فقد شرعيته» وأنّ «على الولايات المتحدة، باعتبارها أقوى ديموقراطية في العالم، أن تعترف وتعلن ذلك الآن؛ لأن التوقيت الحالي مهمّ».
تقرير «مجموعة الأزمات الدولية» الأخير يتسم من جهته بالتشاؤم؛ إذ يقول إن «سوريا متجهة بسرعة إلى ما بعد نقطة اللاعودة». والحلّ كما ورد في التقرير هو في إنهاء العنف فوراً وإقامة حوار داخلي يمهّد لإحلال نظام تمثيلي ديموقراطي حقيقي في البلاد.
ما هي خيارات إدارة أوباما تجاه سوريا، وما هي الخطوات الملموسة التالية؟ كيف تبدو الأجواء في مركز صنع القرار؟ وهل يريد أوباما إسقاط نظام الأسد؟
«الكل يكره نظام الأسد هناك، لكن لا أحد يريد إسقاطه حتى الآن»، يجيب السفير اللبناني السابق لدى الولايات المتحدة عبد الله بو حبيب، في حديث لـ«الأخبار». بو حبيب الآتي حديثاً من واشنطن، أكّد أن «كل الدول المجاورة لسوريا، بما فيها إسرائيل، أبلغت أخيراً الإدارة الأميركية بضرورة الحفاظ على النظام في سوريا». أوباما يدرك مدى خطورة سقوط نظام الأسد وانتشار الفوضى في سوريا الذي سينتقل مباشرة إلى كل الدول المجاورة (العراق، الأردن، السعودية، لبنان، تركيا...) مع التركيز خصوصاً على الوضع الإسرائيلي. لكن الرئيس الأميركي الطامح إلى تجديد ولايته يخشى أيضاً من ردّ فعل بعض الأحزاب واللوبيات الفاعلة، إن حاول غضّ النظر عن أحداث سوريا. لذا، فهو يصعّد من لهجته وخطواته السياسية حالياً، يشرح بو حبيب.
السفير اللبناني، الذي يصرّ على أنه لا ثوابت في السياسة الاميركية وأن الأولوية المطلقة هي لمصالح البلد فقط، يشير إلى أن الخارجية الأميركية تحاول انتهاج مسارين: أن تنتقد النظام السوري وتدين أفعاله من جهة، لكن أن تعطي أيضاً الرئيس الأسد فرصة لتقوية شرعيته والبقاء في السلطة من خلال تنفيذ الإصلاحات. لذا، يشرح بو حبيب، أن الأمور كلها تتوقف الآن على كيفية تعامل الأسد مع الاستراتيجية الأميركية تلك.
هذا ما يسمّيه بو حبيب «استخدام السلاح السياسي مع سوريا»، الذي يؤكد أنه لن يتحول إلى خيار عسكري كما في ليبيا. لكن ماذا بعد العقوبات؟ يجيب بو حبيب بأن الإدارة الأميركية «ستستمر بالتصعيد السياسي ما دام الرئيس السوري لا يستجيب لخطتها، حتى تقرر سحب سفيرها من دمشق. حينها، يجب فهم تلك الخطوة على أنها إشارة إلى قرار أميركي بالتخلي عن الأسد».
ماذا إن لم يتجاوب الأسد مع الخطة الأميركية؟ وماذا عن قرار تمديد وجود القوات الأميركية في العراق؟ كيف ستكون الجبهة الإسرائيلية إن حصل أي تغيير في سوريا؟ وكيف سيكون ردّ فعل الولايات المتحدة؟
للمقامر قاعدة ذهبية تقول: «عليك أن ترى الربح هدفاً بعيداً يلزمه تمرين طويل»، فهل ستتقن إدارة أوباما اللعب؟