الشوق للضفّة الأخرى
عندما زرتُ فلسطين في السنة الماضية، كان ذلك من أجمل أيام حياتي، عشرة أيام ضمن وفد الملتقى الثقافي الفلسطيني زرنا فيها جميع أنحاء الضفة، صلّينا في القدس، تعرفتُ على أهل أمي في عكا، تناولنا الغداء في دير الأسد، مررنا على يافا وحيفا وطبرية والمشاعر في صدري تتقاتل بين الفرحة بوطني وغصّتي برؤيته محتلاً! شعورٌ لن تعرف معناه إلا وأنت ترى المستوطنين في الخليل والقدس، شعورٌ لن يستطيع كل المحللين النفسيين تفسيره.
هذه الرحلة أعطتني الأمل بمعاودة زيارة بلدي ثانيةً، وبالفعل دُعيت هذه السنة. وكما كان عنوان الملتقى الأول «حلم تحقق على أرض الوطن» فإن حلمي بعقد قراني في فلسطين بدا لي قريب المنال! بدأت الاستعدادات منذ مدة، زار فيها المسؤول عن الملتقى في فلسطين أهل خطيبتي في لبنان ليشرح لهم الفكرة ويحصل على موافقتهم، العرس سيبث مباشرة على التلفاز وسيعقد القران وزير الأوقاف، سأدخل على وقع الأغاني الفلسطينية مع زفة بالأثواب التراثية. كل شيءٍ على أكمل وجه، فقط ننتظر التصريح. لكن التصاريح تأخرت قليلاً وخطيبتي تخوفت من رفضها كما السنة الماضية. ثم ورد اتصال لخطيبتي ونحن في اجتماع مسيرة العودة. بدأ وجهها يتغيّر، بدأت تبكي! سألتها «ألم تأتك الموافقة؟» فردت «بلى، لكن هذه المرة لم تأتك أنت!». لا تريد أن تذهب بدوني، قالت. ذكّرتها «هذه فلسطين ولا ينبغي التردد». ودّعتها بحرقة وبصيص أمل، فالرفض كان مبدئياً، حتى تم تأكيد الرفض ظهراً. وبدون شعور أصبح عنواني على الفايسبوك «خسرتُ حلماً جميلاً، خسرتُ لسع الزنابق، وكان ليلي طويلاً على سياج الحدائق، وما خسرت السبيلا».
وصلت خطيبتي إلى فلسطين. شاهدت الاستقبال مباشرةً على الإنترنت. وتذكرت: ما زلنا لاجئين، ووطننا محتل، لا بُدّ أن نجد طريقاً أقرب يختصر المسافات والأزمنة ولا يحتاج إلى تصريح! طريقٌ نرسمه بأيدينا، بدأ خطواته الأولى في 15 أيار. ربما أصل إلى خطيبتي هذه المرة من الضفة الأخرى.
البداوي ـــ عمار اليوزباشي

■ ■ ■

يوم العودة

أتعرف يا عمار؟ أحسدك وخطيبتك كثيراً، فأنا لم أر فلسطين يوماً إلا من الحدود اللبنانية، من بوابة فاطمة أو من بركة ريشة التي تقع في ضيعتي الجنوبية على الحدود اللبنانية ـــــ الفلسطينية. لم أر يوماً يافا وحيفا وطبريا، بل عدداً من المستوطنات تلوّنت كلها بلون «السلام الأبيض»!
كم أتمنى لو كنتُ فرداً في الملتقى الثقافي الفلسطيني، لربما زرت الطمّرة والحي القديم الذي تهجّر منه جدي، يا ليتني رأيت الحسرة بأُمّ عيني يا عمّار، أتعرف أن الحيّ القديم قد دُمّر بالكامل وأصبح مزاراً بيئيّاً لعدد من المدارس العبرية؟ هناك عندما هم يذهبون ولا أذهب، يقول لهم الأساتذة «هنا كان بعض البدو الرحّل، أتوا واستولوا على هذه الأرض. وبعد ذلك أتينا نحن، رمينا عليهم قنابل صوتية، خاف البدو وتركوا الأرض! اضطررنا إلى حرق كل شيء وتدميره، فهنا جلس البدوي الأحمر مع عنزته وأبقاره، فأصبحت للمكان رائحة بشعة! حرقنا الأرض، فأنبتت من جديد ورداً وخضاراً». هناك كنتُ لأقف كي لا أرى شيئاً، ربما حينها كنتُ فقط سأرى الحسرة بأُمّ عيني، ربما حينها كنتُ سأغضب غضب البدوي، كنت سأفضل البقاء حينها تحت ظل خيمة، أربي العنز والبقر في أرض لا يمكنك أن ترى فيها شيئاً، لا يمكنك أن تسمع فيها شيئاً سوى صدى أصوات لأناس هنا كانوا وأجبروا على الرحيل تحت وابل الرصاص والقنابل اليدوية! ربما أنت حزين لأن خطيبتك ذهبت إلى هناك من دونك هذه المرة، لا تحزن كثيراً، فما حصل لكما لا يحصل لأحد منّا، أنت محظوظ لأنك رأيت فلسطين، فيما لا يعرف غيرك فلسطين إلا بالصور والقصص والأخبار! والحلم عودة أصبح اليوم أكبر وأكبر، غضبٌ نريده أن يتفجّر، عودة لا بُد أن تتحقق! ليكون عرسك في فلسطين، نحضره كلنا معاً من دون الحاجة إلى أن نعود بعدها خلف الحدود، بل نبقى هناك في بيوتنا!
15 أيار، يوم النكبة ويوم العودة. يوم الحزن القديم، يوم الفرح الجديد. يوم رحل أجدادنا، يوم سنأتي نحن. يوم عُرسك يا عمار في أرضك من دون لجوء. يوم عودتي إلى أرض أجدادي، يوم غضبي على كل شيء تدمّر، يوم حسرتي على أرض لن أرى فيها شيئاً سوى الغياب. من بعده سيأتي يوم البناء، يومٌ جديد على أنقاض ذاكرة البدوي الأحمر.
بيروت ـــ إيمان بشير