لعنة أن تكون فلسطينياً
الجليل ـــ أنهار حجازي
«إنها لعنة أن تكون فلسطينياً»، كان يشتد بي اليأس أحياناً حتى أفكر بمثل هذا الكلام، ما المتعة في أن تكون ملاحقاً طوال ستة عقود وأن تشعر بالتهديد قبل هذه العقود الست بسنين؟ القضية؟ أنت القضية. الأرض؟ ويزول عند هذا الحد كل الضباب وتصير الرؤيا واضحة وضوح الشمس.
لطالما قلت إن من يزور الجليل مرة لا ينساه أبداً، إن كنا سنتحدث بموضوعية، فلا شيء مميزاً في الجليل، البعض يقول إن ميزاته كميزات بلاد الشام كلها، فالجليل الذي هو جزء من فلسطين التي هي جزء من بلاد الشام، يحمل طابع مشهد بلاد الشام الجغرافي والبيئي، لكني لم أزر يوماً أي مكان من بلاد الشام، سوى فلسطين المحتلة التي أسكنها منذ ولدت. زرت فقط الأردن، لكن الأردن لا تشبه الجليل بشيء، هكذا اقتنعت بأنه لا يوجد أي مكان يشبه الجليل بالدنيا.
قالوا لي إن الجليل يشبه لبنان بطريقة أو بأخرى. لم أقتنع بهذا الكلام كذلك. لم أكن يوماً في لبنان، لم أره يوماً، مع أنني أرغب حقاً في زيارة هذا البلد الجميل، كما قالوا لي. أرغب أيضاً في زيارة دمشق، ربما أيضاً الكويت ودبي وأبو ظبي، وآآه كم أحلم بزيارة مكة والمدينة المنوّرة، لأداء مناسك الحج والعمرة.
ورغم أني لم اعد أتحدث عن بلاد الشام، بل شملت أقطاراً مختلفة من الوطن العربي، فإنني أحلم.
هنا أعود إلى الحقيقة مرة أخرى، تغتالني، ثم توقظني من الموت شامتة بألمي، تلك اللعنة التي تلاحقني صارت لعنتين: «فلسطيني 48».
يستطيع فلسطيني 48 زيارة العديد من الدول العربية: مصر، الأردن، السعودية (فقط لأداء مناسك الحج والعمرة وبوساطة أردنية)، وغيرهم..
أعود إلى الحلم، يمكنني أن اذهب إلى مكة والمدينة المنورة؟ يمكنني أن أحقق حلماً واحداً على الأقل، لكن لا، ليس قريباً، فأنا لا املك ما يكفي من المال لأقوم بهذه الخطوة الجريئة، يدفع الحجاج هنا والمعتمرون عشرات الآلاف حتى يحققوا هذا الحلم، يدفعون ما لديهم بإيمان مطلق بالله ويستغلّهم باسم الله آخرون، وهم يرضون مرغمين، لكنهم تعلموا الصبر على مدى عقود، فهم يوفرون هذه النقود قرشاً قرشاً، ليأتي ذاك اليوم، لأجل أن يحققوا حلماً من بين أحلام لن تتحقق. أما أنا، فمعدمة، ما زلت أعتاش من مصروف أحصله من والدي، فأنا طالبة جامعية فقيرة «وعلى قد حالي». لكنني أحلم..
ربما لو كنت لاجئة في مكان ما، لكنت بحال أفضل، حينها على الأقل كنت سأتخلص من إحدى هاتين اللعنتين، فرضاً أن الثانية ليست بلعنة، حينها كنت ربما سأسافر إلى كل أقطار العالم، وكنت سأحلم بحرّية اكبر، ربما... لكن حال اللاجئين ليست بأفضل من حالي وإن اختلفت ظروفهم.
هم أيضاً يحلمون، أحلامهم ابسط من أحلامي، لكني لا استطيع أن أقرر أهي صعبة المنال كأحلامي، أم... اشد صعوبة! البعض منهم يحلم بعمل وبيت وخبز يومه، والبعض بالتعليم، وحتى السفر، وهم ليسوا في فلسطين المحتلة، لا ترافقهم لعنة الاحتلال، فهم لديهم لعنتهم الخاصة «اللجوء»، ونحلم معاً.
«إنها لعنة أن تكون فلسطينياً»، يتخدر جسدي من شدة الألم، وأتوقف عن الإحساس به فجأة، يزول الضباب، ولا أرى أمامي إلا الجليل... عندما أتحدث عن الجليل لا يمكنني أن أكون موضوعية، لا بد أن أنحاز له. جميع من سبقوني تحدثوا عن القدس وحيفا ويافا وعكا وغزة و... لكن قلائل هم من تحدثوا عن قرى الجليل. كل فلسطين مقدسة، قدستها جميع الكتب السماوية، قدسها الله في عليائه وقدسها البشر على الأرض، تقاتلوا عليها قروناً ودهوراً، جميعهم يزعمون أنها لهم، لكنها لم تكن يوماً إلا لأهلها، أولئك الذين فرقتهم الدنيا وجمعتهم فلسطين، الذين كانوا بها منذ الأزل وسيظلون فيها إلى الأبد، روحاً أو جسداً.
هناك حيث لم أذهب إلا مرات قليلة، أيضاً في فلسطين، فلسطين الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية (كما يزعمون)، هناك ينقسم الناس إلى فئتين، تلك الفئة التي تردد الشعارات طوال اليوم، وتلك الفئة التي تعمل نهاراً وتحلم بالخبز ليلاً.. هي نفس الفئة التي جُرفت بيوتها، وقتل أبناؤها وصمدت، لأنها لا تجيد إلا الصمود.
«إنها لعنة أن تكون فلسطينياً»، يشتد بي اليأس أحياناً حتى أفكر بمثل هذا الكلام، ما المتعة في أن تكون ملاحقاً طوال ستة عقود وأن تسلب أحلامك طوال تلك العقود الستة؟ القضية؟ أنت القضية. الأرض؟ ويزول عند هذا الحد كل الضباب وتصير الرؤيا واضحة وضوح الشمس... لا مكان للموضوعية هنا، فالجليل يستحق كل هذا الألم، لأن النهاية لا بد أن تكون كما في
حُلمي.