دمشق | لم تجدِ جميع المحاولات الحثيثة في التعامل مع الأحداث الاحتجاجية في حمص، وهي المعروفة بروح الظرافة عند أهلها. وتراجع انتشار عدد من مقاطع الفيديو على موقع «اليوتيوب»، التي تسخر من الأحداث ومن روايات «المندسّين» و«العصابات المسلّحة»، مثلما تراجعت النكتة الحمصية، ليتسيّد الوجع الموقف، ولتسيطر حالة الذعر كلياً على المشهد، إذ تضاربت الأنباء الواردة من مدينة خالد بن الوليد حول الأحداث الجارية تحديداً منذ يوم الأحد الماضي؛ فرغم أنّ وكالات الأنباء العالمية أكدت استتباب حالة هدوء حذر بعد تبادل إطلاق النار واقتتال طائفي حدث في مناطق عدة، أدّى إلى مقتل 11 مدنياً، وفق الأرقام الرسمية، تؤكد مصادر أخرى استمرار التوتر والشجارات بين العائلات السنية والعلوية، وتبادل الهجمات على المحال التجارية وحرقها، وسط غياب أمني واضح. في هذا الوقت، أكدت «المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان» في سوريا أنّ ما يحصل «ليس اقتتالاً طائفياً، بل إطلاق نار من قوات الأمن، ومحاولة إشاعة الخبر على أنه نزاع طائفي». والدليل بحسب تلك «المنظمة»، هو الغياب الواضح من قبل السلطات وقوات الأمن والجيش رغم تواجدهم في المدينة، وذلك بنيّة «تشويه صورة الثورة» وتكريس الفلتان الأمني في حال استمرار التظاهرات الاحتجاجية. لكن بعض الأهالي المتواجدين في حمص ينفون نفياً قاطعاً في اتصالات مع «الأخبار»، رواية المنظمة الحقوقية المذكورة، ويؤكدون أن ما يحصل هو بالفعل اقتتال طائفي بغيض، بين عائلات سنية وأخرى علوية، وقد بدأ بعد اكتشاف جثث مجموعة من أفراد المذهب العلوي في الشوارع بعد اختطافهم على أيدي مجهولين منذ يوم الخميس الماضي، ما أجّج الموقف وجعل شوارع المدينة تتحول إلى ما يشبه جبهات حرب تمنع الأهالي من مغادرة بيوتهم، «ومن يخرج من منزله، عليه أن يحمل روحه على كفه»، بحسب تعبير الأهالي. ويرجّح هؤلاء انتشار عصابات مسلّحة منذ البداية، لكنها كانت أقلّ تأثيراً من الآن، «لأن تلك العصابات كانت بالنسبة إلى الجميع أيادي مخربة تقتل دون أن تنسب لدين أو طائفة». أما حالياً، فقد «اختلف الموضوع كلياً».
وسألت «الأخبار» رمزين من المعارضة السورية ممن يخالفان رواية الأهالي، ويحمّلان النظام بشكل أو بآخر مسؤولية ما يحدث، ويتخوفان من امتداد الاقتتال عبر ساحات أخرى خارج محافظة حمص. ويقول الكاتب المعارض منذر خدام «لا أعتقد أن الأحداث الدامية التي تعيشها محافظة حمص الآن، سببها تدخل أو تحريض خارجي، بل نتيجة طبيعية متوقعة للتوتر الكبير الذي خلقه الخيار الأمني الذي كان ولا يزال النظام السوري مصراً على اتباعه في التصدي للحراك الشعبي السلمي أينما وجد في سوريا، وليس في حمص وضواحيها فحسب».
وفي تحليله السريع للأحداث، يضيف خدام أن «هناك فئة من أهالي حمص لا يروق لهم الحراك الشعبي المنتفض منذ بداية الأحداث، وهذه الفئة وجدت أخيراً من يحرّضها ويثير عندها الرغبة في الانتقام أو استخدام السلاح والعنف، ومن الطبيعي ألا يقف من يتعرض للقتل والأذى على يد فئة أخرى مكتوف الأيدي، بل سيعمل سريعاً على الدفاع عن نفسه والثأر من الطرف الآخر في رد فعل طبيعي».
ويحمّل خدام الدولة والنظام عموماً المسؤولية كاملة عن أحداث مدينة حمص التي لا يتوقع أن تنتهي تبعاتها سريعاً على قاعدة أن «النظام يتحمل المسؤولية كاملة عما ستؤول إليه الأمور، لأن أي دولة في العالم متمثلة بأجهزتها الأمنية المختلفة، هي وحدها المسؤولة عن تأمين سلامة أبناء شعبها»، مناشداً أجهزة الأمن السورية السماح للحراك الشعبي السلمي بالمضي قدماً في طريقه، «بدون مواجهته بالعنف والرصاص الحي، لأن هذا وحده كاف لإثارة الضغائن والأحقاد بين أطياف المجتمع السوري المختلفة». ويرى أن مجمل الطروحات السياسية التي تقدمها أطراف المعارضة المختلفة، هي وحدها الكفيلة بالخروج من الأزمة، لأنّ «أي صراع يعتمد على أسس غير سياسية سلمية، هو ضار بالحراك السلمي الشعبي الذي بات يعم غالبية المحافظات والمدن والبلدات السورية، وعلى الجميع رفع شعار لا للطائفية ونعم للوحدة الوطنية، وأنا شخصياً أدين بشدة جميع الصراعات الطائفية أو العرقية أو المذهبية أينما وجدت». كذلك يحاول خدّام المساهمة من موقعه في إيقاف الاقتتال الطائفي في حمص، خوفاً من انتقاله إلى مناطق أخرى. ويقول عن هذا الموضوع «أحاول جاهداً العمل سريعاً على معالجة أحداث حمص الأخيرة، ووصلني أن هناك عدداً من العقلاء وأصحاب الشأن يعملون على الأرض من أجل تهدئة النفوس، وتطويق الخلافات وإزالتها نهائياً، خوفاً من خروجها عن السيطرة، وانتقالها إلى محافظات أو مدن سورية أخرى».
بدوره، يؤكد الصحافي المعارض لؤي حسين لـ«الأخبار»، أن معلومات وشهادات كثيرة وصلته من ناشطين سياسيين ومعارضين في مدينة حمص تفيد بـ«جهود عدد من العقلاء والنشطاء السلميين، خلال الأشهر الأربعة الماضية، لتأخير اندلاع مثل هذه الأحداث»، مشيراً إلى أن السلطات السورية عبر أجهزتها الاستخبارية والأمنية القمعية، كانت تسعى جاهدة إلى إثارة مثل هذه الأحداث، منذ الأسبوع الأول من عمر الانتفاضة السورية». ويبرّر حسين غياب الدور الفاعل والحقيقي للنشطاء السلميين ولأسماء معارضة ولمثقفين عن الأرض بـ«الملاحقة والاعتقالات التي كانت الأجهزة الأمنية ولا تزال تمارسها في حمص كما في باقي المدن والمحافظات السورية، بحق جميع النشطاء السلميين والمعارضين من أصحاب المشاريع الديموقراطية السلمية، وهو ما تسبب في غياب حضور هذه الفئة ضمن الحراك الشعبي». ويلاحظ حسين أنه في مقابل هذه الصورة، «بقي العناصر الأمنيون الاستخباريون القمعيون مسيطرين سيطرة كاملة على الأحياء والشوارع، والشحن الطائفي هو نتيجة حتمية لممارسات أجهزة الأمن القمعية، خلافاً لما يدعيه النظام عن وجود تدخلات خارجية وغيرها».
ويقدّم حسين قراءة متسلسلة لتطور الأحداث، وصولاً إلى الاقتتال الطائفي الذي تعيشه حمص حالياً. وبرأيه، «مع بداية الأحداث، عملت أجهزة الأمن على إشعال نار الطائفية بوسائل كثيرة مختلفة، مثل تزكية فئة معيّنة وتسليحها، وهو ما حصل مع المنظمات الشعبية وعناصر من حزب البعث وفئات شعبية أخرى موالية للنظام». وعن الموضوع نفسه يضيف: «لقد افتعلت الأجهزة الأمنية أحداثاً كثيرة من أجل إثارة الحس الطائفي، كالاعتداء على أحياء ذات انتماءات طائفية محددة، ونسبها إلى حي آخر». واتهم الإعلام السوري الرسمي ومن يواليه من الاعلام الخاص، بتغذية الحس الطائفي. ويعطي مثالاً عن ذلك، إذ إنّ «المتابع للاعلام الرسمي وللفضائية السورية ولقناة الدنيا، يمكنه قراءة السيناريو الموحد الذي قُدِّم وعُمل عليه من أجل تكريس الشحن الطائفي، فجميع المتظاهرين بنظرهم يخرجون بدافع ديني متطرف فقط، وجميعهم من الطائفة السنية خرجوا للنيل من بقية الأقليات الدينية والعرقية والطوائف الأخرى».
ويخشى حسين من ألا تنحصر أحداث حمص بحدود المدينة، رغم أن أخباراً كثيرة «وصلتني من بعض الأصدقاء في حمص، تؤكد عقد مصالحات واجتماعات بين عقلاء وزعامات الأحياء فيها، وتهدف إلى السيطرة على الأحداث والاقتتال». ويكرر الإعراب عن قناعته بأن السلطات الأمنية القمعية «تعمل جاهدة على إثارة واختلاق مثل هذه الأحداث، في محاولة منها لتشويه صورة الانتفاضة السورية، وإظهارها كأنها اقتتال طائفي دموي بعيد عن الطروحات السلمية والعلمانية والديموقراطية التي قامت من أجلها».
والمخاوف إزاء عدم انتهاء الأزمة حتى داخل حمص عزّزتها تقارير لوكالتي الأنباء الفرنسية و«رويترز»، ونقلتا فيها عن شهود من المدينة تأكيدهم أن القوات الأمنية ورجال ميليشيا موالية للنظام قتلوا 13 شخصاً في هجمات حصلت أمس. وقالت «لجنة التنسيق المحلية» في المدينة إن بين القتلى «ثلاثة مشيّعين كانوا يشاركون في جنازة عشرة أشخاص قتلتهم قوات الأمن يوم الإثنين». وقال أحد المشيعين لـ«رويترز»: «لم نتمكن من دفن شهدائنا في المقبرة الرئيسية في المدينة، لذا ذهبنا إلى مقبرة أصغر بالقرب من المسجد، وعندها بدأ رجال ميليشيا بإطلاق النار علينا من سياراتهم»، لافتاً إلى أن الجثث نقلت إلى مسجد خالد بن الوليد في شرق منطقة الخالدية في المدينة. وتابع أن «الخالدية محاصَرة تماماً من جانب الجيش، ونحن معزولون عن بقية حمص كما لو أننا في دولة أخرى».
في المقابل، وجّه محافظ حمص غسان عبد العال رسالة إلى أبناء المحافظة طمأن فيها إلى أن السلطات «لن تألو جهداً في محاسبة المجرمين الذين أوقعوا 11 شهيداً في الأحداث التي شهدتها مدينة حمص منذ مطلع الأسبوع»، داعياً إلى «العمل مع كل شرفاء المجتمع الحمصي على جعل دماء الشهداء قرابين لوحدة الوطن لا لتجزئته».