إذا كانت الحرب الليبية، التي اندلعت بعد انتفاضة 17 شباط، قد كلّفت الاقتصاد 50 مليار دولار في خمسة أشهر، فإن الأموال المجمّدة للحكومة الليبية في الخارج، التي بدأ الإفراج عنها بالقطّارة، لن تكفي لدفع رواتب الثوار والموظفين وتغطية مصاريف إعادة الإعمار وإعادة عجلة الاقتصاد والخدمات الأساسية إلى المواطن. فضلاً عن فواتير حلف شمال الأطلسي الباهظة، التي تشمل تكاليف طلعات الطائرات وتحريك السفن وأجور الجنود، وأثمان القنابل الذكية والغبية إلخ.
فواتير هائلة من إرث الحرب تجثم على ظهور المسؤولين في السلطة الانتقالية، كان لا بد من تسريع الخطى لإصلاح ما تضرّر من منشآت ومصاف ومعدّات خاصة بإنتاج وضخ النفط والغاز. وإذ يحاول المجلس الوطني الانتقالي الليبي جاهداً بالتعاون مع دول صديقة بدء الإنتاج، حتى لا يبقى طويلاً تحت رحمة الديون الخارجية، أعلن رئيس الوزراء الليبي المؤقت محمود جبريل الأحد الماضي (12 ايلول2011) أن ليبيا استأنفت إنتاج النفط في الشرق، متعهداً استئناف تشغيل مزيد من الحقول في الغرب «في المستقبل القريب».
وبقدر ما سيخدم تسريع وتيرة العمل على الإنتاج النفطي الشعب الليبي، فإنه أيضاً حاجة ملّحة لدول الغرب، وخصوصاً أنها على أبواب الشتاء وتحتاج الى كميات من الغاز للتدفئة.
الأهم من ذلك ثمة مشكلة حقيقية ناجمة عمّا يسببه استمرار انقطاع النفط الليبي عن الأسواق من خلل في ميزان الأسعار والعرض والطلب، فيما لو أوقفت دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، تعويض النقص الناتج عن توقف النفط الليبي. فليبيا التي تملك أكبر احتياطيات من النفط الخام في أفريقيا، كانت تبيع نحو 85 في المئة من صادراتها إلى أوروبا قبل انتفاضة شباط التي أطاحت حكم العقيد القذافي.
لذلك تتأهب الشركات النفطيّة الأجنبية لاستئناف عملها في الحقول الليبية، فيما تتأهب شركات أخرى تابعة للدول التي شاركت في عملية «الحامي الموحد» لحلف شمال الأطلسي في الهضبة الأفريقية، للتمتع بامتيازات جديدة كعربون «وفاء» لوقفة دولها مع الثوار في عملية إطاحة نظام القذافي.
لهذا حصل، على خلفية هذا الموقف، لغط بخصوص اتفاق، نفته كل الجهات المعنية، عن تسهيلات سيقدّمها المجلس الانتقالي الليبي إلى شركات فرنسية مقابل وقوف باريس مع الثوار ضد النظام. ورغم أن المجلس الوطني أعلن البقاء على الاتفاقات القديمة مع الشركات الأجنبية حتى انتهاء المرحلة الانتقالية، فإن الواضح في هذا المجال هو خسارة الشركات الروسية والصينية امتيازات كبيرة بسبب مواقفها السلبية تجاه الثوار الليبيين، لكن على المستوى الإيطالي، والبريطاني والفرنسي والتركي، وربما القطري والأميركي، سيكون الوضع مختلفاً في ظل العهد الجديد، إذ إن مشاركة هذه الدول باتت حتمية وبقوة. ولعل الدولة الاستعماريّة السابقة للهضبة الأفريقية، إيطاليا، هي السباقة اليوم للبدء بمشاريع الانتاج. فقد أعلن الرئيس التنفيذي لمجموعة النفط الايطالية إيني، باولو سكاروني، لوكالة «رويترز»، خلال زيارته لطرابس الأسبوع الماضي، أن الشركة تسعى إلى استئناف تصدير الغاز من ليبيا إلى إيطاليا عبر خط أنابيب غرين ستريم بحلول تشرين الأول أو تشرين الثاني المقبلين.
وبحكم العلاقة المتينة والحميمة التي جمعت بين العقيد المخلوع معمر القذافي ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني، فقد حظيت إيطاليا برلوسكوني بحصة الأسد من الانتاج الليبي في النفط والغاز، الذي يصل من مليتة في ليبيا إلى جزيرة صقلية في جنوب إيطاليا بأنابيب بطول 520 كيلومتراً؛ هذه الأنابيب توفر نحو 12 في المئة من احتياجات إيطاليا من الغاز. أما النفط، فتستورد روما نحو 32 في المئة من انتاج ليبيا، بما يوازي 25 في المئة من واردات ليبيا.
الحظوة الإيطالية كانت واضحة، فقبل اندلاع الانتفاضة كانت شركة ايني، المملوكة للدولة الإيطالية، هي أكبر شركة نفط أجنبية في ليبيا. ويبدو أنها لا تزال تراهن على الاستمرار في ذلك، فقد أكد وزير الخارجية الإيطالي، فرانكو فراتيني، مطلع الشهر الحالي أن إيطاليا «ستحتفظ بموقعها كأول منتج للمحروقات» في ليبيا.
أما فرنسا، التي تستورد 15 في المئة من حاجياتها النفطية من ليبيا، فقد تصبح هي صاحبة الحصة الأكبر من الكعكة في مرحلة ما بعد القذافي، نظراً «إلى نخوتها» الزائدة في «الدفاع عن الشعب الليبي» من خلال تشديدها على صدور القرار 1973 في آذار الماضي، الذي يقضي بفرض حظر جوي فوق ليبيا؛ جهزت فرنسا 75 طائرة من نوع «ميراج 3» «ورافال» و«ميراج 4» لتدمير الثكن العسكرية التابعة للعقيد القذافي، وضرب شبكات الاتصال والقواعد الجوية والقوات البرية خاصة.
ففرنسا، التي تريد السيطرة اقتصادياً على شمال أفريقيا، من ليبيا الى المغرب الى الجزائر وتونس، لتأمين مصادر الطاقة على مدى عقود طويلة، قد تزاحم الولايات المتحدة على المصالح في الهضبة الأفريقية، لكن الخاسر الأكبر سيكون حلفاء ليبيا القدامى، الصين وروسيا، اللذين رغم اعترافهما تدريجياً بالمجلس الوطني الانتقالي وتعاونهما معه بعد فترة من تأييد النظام، لن يعود لهما العز الاقتصادي الاستثماري الذي تمتعا به في مرحلة سلطة الكتاب الأخضر.
بيت القصيد يكمن في وضع الدول التي عوّضت نقص النفط الليبي في الأسواق الغربية خلال توقفه عن الضخ نحو ثمانية أشهر، والمقصود من ذلك السعودية بالدرجة الأولى. فقد أشارت صحيفة «الحياة» السعودية إلى أن «غياب النفط الليبي في الأشهر الماضية أدى إلى ارتفاع الأسعار العالمية للمادة، بحيث وصل سعر «برنت» إلى نحو 127 دولاراً للبرميل، وانخفض السعر تدريجياً إلى نحو 110 دولارات للبرميل، لسببين رئيسين: قرار السعودية ودول خليجية أخرى (الإمارات والكويت) زيادة الإنتاج وتزويد الأسواق بما يُمكن من النفط المشابه في النوعية للنفط الليبي الخفيف. وانخفضت الأسعار أيضاً بسبب الحسم العسكري السريع في طرابلس الغرب. ويمكن إضافة أسباب أخرى مؤثرة في الأسواق مثل أزمة الديون الأوروبية، ووهن الاقتصاد الأميركي بسبب معدلات البطالة العالية، ما أدى إلى انخفاض الطلب على النفط في الدول الصناعية الغربية حالياً».
ويبدو أن السعودية هي المتأثر الأكبر سلباً بعودة النفط الليبي الى الأسواق، فقد بينت الأرقام أن المملكة الخليجية ضخت في أسواق النفط العالمية 1.68 مليار برميل في الثمانية أشهر الأولى من 2011 بقيمة 678 مليار ريال، بينما أكد خبراء اقتصاديون لصحيفة «الرياض» السعودية أن معاودة ليبيا لإنتاجها ستقلّص من إجمالي إنتاج الأوبك الحالي. وهذا بدوره سينعكس نسبياً على إنتاج السعودية، إذا ما كان الهدف المحافظة على استقرار سعر «نايمكس» في نطاق 90 دولاراً.
وينقل فهد الثنيان، في تقرير نشره في «الرياض»، عن مؤسسة «oil movements» الاستشارية البريطانية، أن منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) فشلت في الاتفاق على زيادة الإنتاج في حزيران الماضي، لكن السعودية، أكبر مُصدّر في المنظمة، قالت إنها ستوفر كل احتياجات المستوردين وزادت إنتاجها، لكن رغم هذا التعويض بقي إنتاج «أوبك» أقل من مستواه قبل عام بسبب انقطاع الإمدادات الليبية. وتنقل الصحيفة السعودية عن عضو جمعية اقتصادات الطاقة الدولية، فهد بن جمعة، قوله إن هذا التطور إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الفائدة التي جنتها السعودية من جراء الأزمة الليبية، مصداقاً للحديث القائل «مصائب قوم عند قوم فوائد».
بن جمعة يرى أن معاودة ليبيا لإنتاجها ستقلص من إجمالي إنتاج الأوبك الحالي، الذي تجاوز 30 مليون برميل يومياً، وبزيادة قدرها 5.2 ملايين برميل يومياً عن سقف إنتاج الأوبك البالغ 24.845 مليون برميل، تنتجها 11 دولة أعضاء في المنظمة، ليحل محله إنتاج ليبيا. على أي حال، ستعمد السلطة الليبية بعد ترسيخ أقدامها إلى توطيد مصالحها مع كل دولة من الدول التي ساهمت في القضاء على نظام القذافي، لكنها في الوقت نفسه لن تدير ظهرها للدول الأخرى التي لم تطل الأمد في مسيرة انعطافتها نحو الثوار، مثل تركيا، أو تلك التي استلحقت نفسها في الأيام الأخيرة مثل روسيا والصين.
لقد عبّر المسؤول في لجنة إعادة الاستقرار التابعة للمجلس الانتقالي، عارف علي النايض، في حديث أدلى به في باريس مطلع الشهر الحالي، عن رغبة ليبية في تنويع الشركات التي ستعمل في حقول بلاده لانتاج الطاقة. وقال «أعتقد أن خمس شركات على الأقل عادت. تلك التي لها بنية تحتية قائمة منذ ما قبل الثورة». وقد أرسلت هذه الشركات طواقم وفرقاً متقدمة لإعادة تشغيل المصفاة في رأس لانوف في الشرق، أو البنية التحتية للغاز التابعة لإيني (الايطالية) في مليتة.
وفي محاولة لطمأنة الشارع الليبي، بدا المجلس الانتقالي كأنه يلعب لعبة الوقت الضائع في موضوع النفط واستثماراته، لذلك كانت معظم تصريحات المسؤولين في السلطة الانتقالية الحالية، تركّز على بقاء العقود السابقة كما هي، ريثما تؤلّف حكومة جديدة أصيلة بعد 8 أشهر من السيطرة التامة على جيوب كتائب القذافي، وإنهاء موضوع العقيد الهارب.
ولعل نفي رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل وجود «اتفاقات او عقود أو وعود» تتعلق باستغلال النفط الليبي من قبل شركات فرنسية يصب في هذا السياق، وخصوصاً بعدما تزايد الحديث عن استغلال وابتزاز قد تلجأ إليه الدول الكبرى للحصول على حصص كبيرة مقابل ما دفعته من أموال للعملية العسكرية والمساعدات الإنسانية وغيرها من دعم لوجستي للثوار والسلطة الانتقالية الليبية الحالية.
لقد كان عبد الجليل صارماً في ردّه على ما ذكرته صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن اتفاق بين فرنسا والمجلس الانتقالي تمنح بمقتضاه الشركات الفرنسية حصة 35 في المئة من النفط الليبي، فبعد نفي شركة توتال المعنية المباشرة، ونفي الحكومة الفرنسية، قال عبد الجليل «لو كان لدى أي وسيلة إعلام ما يفيد بذلك فعليها إطلاعنا، إذ إن ذلك يقع تحت طائلة اتهامات الفساد الواجب إطلاعنا عليها». بل ذهب أبعد من ذلك حين قال «ثمة حديث عن فساد في مؤسسات وطنية، وهي أفعال مرفوضة رفضاً باتاً إذ تأتي بينما نخوض حرباً». وأضاف «سنحقق فيها، وإذا ثبتت فسنعلن على الملأ أسماء الأشخاص وأفعالهم وسيعاقبون أمام محكمة جنائية». لقد وعدت السلطات الليبية الجديدة في السادس من أيلول الحالي وفداً من الاتحاد الأوروبي باحترام الالتزامات، وبـ «استمرار» العمل في العقود الموقعة في عهد القذافي. وخلال زيارة وفد من الاتحاد الأوروبي الى طرابلس «كانت الرسالة هي استمرارية الأعمال»، حسبما ذكر دبلوماسي أوروبي تابع الاجتماعات بين الجانبين. كذلك أكد محاورو الوفد الأوروبي أنهم سيحترمون تعهداتهم وأن «العقود الموقعة في عهد القذافي ستجدد وستستمر ولن تنقض أو تلغى».
إلا أن تصريح المدير العام لاتحاد أرباب العمل الفرنسي، تييري كورتيني، الذي يمثل مصالح كبرى الشركات الفرنسية في الخارج عن تكلفة إعادة بناء ليبيا، التي تقدر بنحو 200 مليار دولار على الأقل على مدى عشر سنوات، يتخوف من عدم نيل فرنسا ما «تستحقه» من صفقات في ليبيا، لقاء مشاركتها القوية في عملية «الحامي الموحد»، ومن قبلها «فجر الأوديسيه».
مجمل القول إن التحديات التي تواجهها السلطة الليبية الواعدة لن تكون سهلة، والمخاطر من هيمنة سياسية استعمارية على القرار أيضاً واردة، وخصوصاً حين نجد أن فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا، قد استرسلت وأمعنت في التدخل بخطط الثوار العسكرية والسياسية، وجندت عناصر تجسس وعناصر من القوات الخاصة لمساعدة الثوار على ملاحقة فلول النظام السابق.
على الأقل لا بد من النظر الى الدور الفرنسي، الذي حلّق عالياً في سماء الهضبة الأفريقية حتى بات يتصرّف مع القضية الليبية على غرار «أم الصبي». لقد أصبحت قضية إعادة إعمار ليبيا في أيد «أمينة»، بعدما أعطى المجلس الانتقالي ثقته بشخصيات أميركية وفرنسية، بدءاً من مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان، الذي أشرف ميدانياً على معركة تحرير طرابلس، مروراً بالسيناتور الصقر الجمهوري جو بايدن، وصولاً الى الفيلسوف المتصهين هنري برنار ـــــ ليفي، الذي كان يزور مواقع الثوار الاستراتيجية ويطّلع على خططهم العسكرية. ثمة تحديات كبيرة أمام الليبيين مالياً، رغم بدء الإفراج عن الأموال المجمّدة في الخارج، التي تتجاوز الـ 165 مليار دولار، فما تحتاج إليه جمهورية الثوار الجديدة لا يقل عن 200 مليار دولار، في وقت تبقى فيه المراهنة الأساسية على إنتاج النفط وبيعه في بلد لا يملك سوى مصادر الطاقة.



1,6 مليون برميل يومياً

كانت «الجماهيرية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى» تنتج نحو 1.6 مليون برميل يومياً من النفط الخام الخفيف، مقارنة بإنتاج دول منظمة «أوبك البالغ» نحو 30 مليون برميل يومياً، ومجمل الإنتاج العالمي، الذي يبلغ نحو 89 مليون برميل يومياً. وكانت تستهلك نحو 300 ألف برميل يومياً، ما يعني أن صادراتها إلى الأسواق الدولية تبلغ نحو 1.3 مليون برميل يومياً. ومع أن إنتاج ليبيا لا يمثّل نسبة مهمة من الإنتاج العالمي، إلا أن المراقبين ينظرون الى خطورة المسألة من منظار الأسواق، فبحسب مقال للمستشار النفطي وليد خدوري في جريدة «الحياة» بتاريخ 4 ايلول الحالي، يتّضح أن الأسواق لا تتعامل مع حجم إنتاج دولة نفطية فقط، «بل هي تتأثر أيضاً باستمرارية تدفق النفط الخام، مهما كان حجمه، وعدم تعرضه لهزات قد تؤدي إلى توقف تصديره، أو إلى نقص في الكميات الممكن تصديرها، وما هي فترة الانقطاع أو الانخفاض، وكم هي الفترة التي تحتاج إليها الدولة لإعادة مستوى تصديرها إلى المعدلات السابقة. وتتأثر أيضاً بوجهة تصدير نفط الدولة المعنية، ومدى إمكان تعويض النقص بإمدادات مشابهة لنوعية النفط المفقود. وفي حالة ليبيا فإن نفطها من النوع الخفيف».