للمرة الأولى منذ ثورة «25 يناير»، تعلو نبرة التسلط إلى درجة ملحوظة، مصاحبة لإجراءات عنيفة، في مقدمتها تفعيل حالة الطوارئ، مع إضافة «نشر الأخبار الكاذبة» للمرة الأولى أيضاً إلى حالات تطبيق القانون. إجراءات أخرى منها منع تراخيص الفضائيات الجديدة، أو الرقابة على القديمة، وإغلاق مكتب «الجزيرة مباشر».
الحزمة مخيفة، وخاصة أنها ذات ملمح عقابي: «أنتم السبب في تنشيط العناصر السلطوية»، وهذا يعني أنّ التراجع بسبب «الثورة» أو ما تصفه لغة إدارة المرحلة الانتقالية (المجلس العسكري والحكومة وما بينهما من وسائل إعلام) بـ«العناصر الفوضوية المشاغبة أو البلطجية» هم الجزء الأسود الذي يريد تشويه الثورة، ويسرقها من «الشرفاء».
التسلُّط كعقاب يكشف عن رغبة أو مؤامرة لإحداث فوضى، وعن رغبة في الحصول على رخصة قمع باسم «الشرفاء» من الشعب والثوّار. مؤامرة عزل الثورة في محيط تفقد فيه التفاعل، هي اللعبة المحبّبة للدولة التسلطية، واحترافها المؤكد، لكنه يمارَس لأول مرة بهذه العلانية بعدما فشلت كل أدوات القمع والضبط والربط من اللهجة الحنونة إلى المحاكمات العسكرية.
فشل مسارات المجلس العسكري وارتباكه يعيدانه إلى العقلية القديمة بحزمة الاستبداد المعلنة في نهاية «جمعة تصحيح المسار» وصدامات ما بعد اقتحام السفارة الإسرائيلية ومديرية أمن الجيزة. حزمة الاستبداد تأتي في سياق محاولات الكواليس لتقسيم كعكة البرلمان المقبل، وتوزيع الأنصبة على القوى السياسية لضمان السيطرة المسبقة. إنها عقلية قديمة، عقلية أن الشعب منفلت ولا بد من ترويضه، والحكومة «دراعها ما يلتويش». المجلس وحكومته أخرجا من الأدراج القديمة عقلية تقول إن حل كل القضايا يكمن في التمسك بكل المفاتيح. عقل لم ينجح في إدارة الأزمات، وأبقى مصر على درجة الاحتقان سنوات طويلة. مصر تغيّرت وعقل إدارة البلاد لم يتغير. يتعامل المسؤولون عن إدارة المرحلة الانتقالية كما لو أنهم مندوبو العناية، وأنهم في مهمة إنقاذ، وهذا ما يجعلهم لا يرون أو لا يشعرون بالتغيير الكبير الذي حدث بعد الثورة. لم يعد أحد يحتمل إهانة أو قيداً، ولن تقبل بعد اليوم طريقة التعامل مع القوى السياسية، بجديدها وقديمها، على أنها «قلة مشاغِبة» أو «شرذمة» يمكن عزلها عن الشارع ومطاردتها أو حصارها.
الثورة فتحت أبواب التسييس. ورغم أن قطاعات كبيرة من المجتمع لا تزال أسيرة في اليد القابضة للإعلام الحكومي، لم يعد للحكاية راوٍ واحد، ولم تعد المصادر الحكومية هي المصدر الوحيد، بل لا يزال الإعلام الحكومي دليلاً على أن الرواية الرسمية مشكوك فيها.
ألا يعلمون أنهم عابرون في لحظة عابرة، وأنهم في مهمة نرجو أن تكون قصيرة، وسيدخلون بها التاريخ إذا جرت لمصلحة بناء جمهورية ديموقراطية تحقّق رغبات الشعب وأشواقه في دخول عصر الدولة الحديثة بعد سنوات من الإقامة الطويلة في قرون وسطى سياسية؟ مصر وضعت فرعونها في القفص بالبيجاما الزرقاء، وفتحت ثورتها أبواباً ونوافذ، لكن الرئات ضاقت بعدما ضبطت حركتها على الهواء القليل والملوث. الثورة في ردّ فعلها الأول بدت عنيدة: إضرابات واعتصامات في اليوم التالي لإعلان الطوارئ الجديد، ورسائل واضحة في وسائل الاتصال الحديثة: لا تراجع ولا استسلام... والأهم إعداد لمواجهة الطوارئ، تتحرك فيه قوى ديموقراطية لمواجهة المجلس العسكري على أن عودته إلى حزمة الاستبداد إعلان واضح بالتخلي عن طريق الثورة. هل بحث المجلس عن ذريعة؟ هل الخطة سارت إلى هذا الاتجاه بتدبير مسبق؟ غالباً الارتباك دفع إدارة المرحلة الانتقالية إلى «الخيار صفر» الذي لم يستوعب بعد أنّ بروباغاندا الإعلام الحكومي لن تستطيع الحشد أو تكوين وعي قابل للترويض.
تلفزيون الحكومة لا يفعل سوى تبرير موقف الاستسلام للأمر الواقع. بمعنى آخر، التلفزيون لا يصنع وعياً، لكنه يلغي الوعي وهذا فارق كبير. ومن تنجح معهم رسالة التلفزيون هم كتلة صامتة ومحبطة، يمكنها أن تكتشف تغييبها في أي لحظة، لكنها لا يمكن أن تكون أساس علاقة حاكم بالشعب بعد الثورات العربية.
الثورات العربية حررت أجيالاً كاملة من أسر الارتباط بدائرة الخضوع والاستسلام للأمر الواقع. الاستعمار الوطني بثّ اليأس عبر سنوات طويلة في شعوب كانت تحلم بصناعة دولة قوية عندما يرحل الاستعمار الأجنبي… وولّد أجيالاً مستسلمة للقهر والقمع والديكتاتورية على أنها قدر.
الجيل الجديد حرّر معه أجيالاً نامت أحلامها داخل القوقعات الشخصية والكهوف التي هرب منها كل من له روح يقظة وعقل مشحون الخيال. هروب كان جماعياً من كل ما هو جماعي. الاستعمار الوطني بجنرالاته وإعلامه أوصل المصريين إلى كراهية كل ما يجمعهم معاً. حسني مبارك كان الأكثر إبداعاً في إفساد كل ما يلتقي فيه الفرد مع جماعته. أيام مبارك لم تكن سوى عصر انحطاط طويل، فقد فيه المصريون علاقتهم بماضيهم، ويئسوا من أي مستقبل. لم يكن أمامهم إلا الغريزة. مثلما يفعل الشخص الذي يعيش تحت الضغط، فيقف في نصف الشارع ويتصرف بانحطاط، غير مكترث بالذوق العام، ولا محترِماً فنّ العمارة، فإنّ أيام مبارك تشبه هذا السلوك الذي يتأفّف منه بعض الناس، ويضحك الآخرون، لكن لا أحد يشعر بضرورة الخروج من الانحطاط. الانحطاط مصيدة خلّصت الثورة مصر من فخاخها المتعددة. ومن يتكلمون عن «ثوابت أخلاقية ووطنية» ليسوا سوى المتأففين من مشهد الانحطاط ويريدون أن يقبضوا على المنحط. هؤلاء يريدون أن تضع السلطة هذه «الثوابت» لتخدمها وتخدم مهمة تحويل الجمهور الكبير إلى قطعان ترضى بالفتات الذي يلقيه السادة في السلطة، على اعتبار أن الشعب عبيد وأغبياء. الثورة حرّرتنا من الانحطاط. حرّرتنا من الشعور بالخوف من كل ما هو جماعي. من فكرة اللقاء العام والاتفاق على صناعة «مصر جديدة»، وهذا ما يزعج سلطة تريد الشعب قطعاناً تدور في متاهة الانحطاط، لا مجتمعاً يعرف ما يريد.

أحمد عزّ... نهاية إمبراطوريّة




إمبراطورية أحمد عز سقطت أمس مع حكم القضاء بسجنه وإلغاء احتكاراته، لكن مزرعة الديناصورات لم تنته بعد، ولا تزال كثير من أطرافها تعمل في لندن، وتتسلل وجوهها إلى القاهرة

أحمد عز دخل الدائرة الزرقاء. حكمت عليه المحكمة بعشر سنوات، وبإلغاء ترخيص شركته، التي احتكرت خلال العشر سنوات الأخيرة تجارة وتصنيع حديد التسليح. الإمبراطور الذي سيرتدي البدلة الزرقاء، بعد شهور من البيضاء، علامة على تحول السجن الاحتياطي الى حكم قضائي، يدين طريقة أحمد عز في الاستيلاء على شركة قطاع عام، كان علامة بارزة على التحول الكبير في حاشية الرئيس حسني مبارك، من طلاب ثروة الى رأسمالية متوحشة تلغي المنافسة، وتصنع من المال تنظيماً افتراضياً متطرفاً ينقل أدوات الاحتكار الى السياسة، فتصبح الانتخابات الأخيرة في عصر مبارك أقرب الى طبعة أحمد عز من السياسة الاحتكارية.
التحول في الألوان دراماتيكي لشخص شعر في الأيام الأخيرة للدكتاتور بأنه في مفترق طرق بين أن يكون كبش فداء يلقى به الى جموع غاضبة ترى فيه رأس الأفعى، أو يقترب الى الكرسي الكبير ليكون ربما الرجل الأول، لا الثاني كما يتصور البعض. جنون المال وقدرته على صناعة الولاء أطلقا خيال الرجل القصير، كما يسخر من حجمه واحتياجه دائماً الى سنّادة خشبية كلما ألقى خطاباً عمومياً.
أحمد عز، المترنح بين نقيضين، خفت ضجيجه والسخط عليه بمجرد سقوط النظام، كأنه كان بديلاً في الزهو والسقوط معاً. نعم، احمد عز، في نفس التوقيت من العام الماضي، كان صاحب الصوت الأعلى. هو المهندس والمدير واللاعب المحرك للأحداث. لاعب من نوعية أخرى تختلف عن فرقة الموظفين المحيطين بالرئاسة. قادم من عالم البيزنس الصغير ليقتحم العالم الكبير، ليس في البيزنس فقط، لكن أولاً وقبل أي خطوة في السياسة.
لماذا بدا أحمد شخصية هامشية في لحظة السقوط؟ لماذا ظهر مسكيناً، شارداً، في اللحظات النادرة التي ظهر فيها؟ لماذا قل الاهتمام به رغم أنه كان شاغل الجميع باعتباره رمز الفساد السياسي والمالي؟
هل لم يعد له دور بعدما أدّى طويلاً دور المجرم البديل عن الرجل الكبير؟ في قمة سطوته كان يشبه الى حد كبير شخصية من عالم الرسوم المتحركة تؤدي دوراً لا تعرف الى أين سيؤدي بها في آخر القصة.
أحمد عز ابن ثروته. وكان يمكن أن يكون صاحب مصنع مجتهداً وقادراً على التطوير (وعنده بالفعل مهارات للتطوير والجدية يفتقدها مثلاً جمال مبارك ومن اختارهم في فرق مساعدته). وكان يمكن أن يبني بجهده وقدراته ما يضيف به الى اقتصاد حقيقي، لكنه اختار الطريق السهل، والمتاح في عصر الثروات السهلة.
قد تكون أحلامه القديمة هي أن يكون عازف غيتار، كعشرات غيره من أبناء تجار الحديد في السبتية، أو وكالة البلح. ويريدون أن يتقدموا خطوة في
الالتحاق بالطبقة الوسطي العليا. غيتار أحمد عز سيظل متحكماً في حياته. هو الرمز الذي تدور حياته حوله، اشتراه بقوة المال (مال أبيه) وكان دائماً أكبر من حجمه، وأراد به أن يكون في وضع اجتماعي مختلف. أراد دائماً أن يحيط نفسه بالوفرة ليتغلب على شعوره بالحجم الصغير لجسده (كل شيء كان كثيراً في حياته، من الزوجات الى حجم الثروة، الى الشعور بالقوة في حزب ليس حزباً بالأساس، حتى طريقة تحدثه بالإنكليزية الفخمة على طريقة اللوردات المنقرضين).
الغيتار تحول الى أشياء أخرى، كلها تريد أن تصنع من شخص أحمد عز، شخصاً آخر يقنع الآخرين بأنه موجود وحجمه أكثر ضخامة مما يشعر به هو أصلاً.
السياسة تفعل هذا الآن، هي الطريق الذي اختاره أحمد عز ليصنع من ثروته سلماً للوصول الى مكانة لا تؤهله قدراته العادية للوصول اليها. وكما كان أحمد عز محدود الموهبة في الغيتار، فهو في السياسة لا يمتلك سوى كفاءة التسلل الى مناطق الضوء.
هل رأى أحدٌ أحمد عز في اجتماع حزبي قبل الترشّح أول مرة في انتخابات مجلس الشعب؟ هل سمع أحدٌ عن رأي أو فكرة قالها أحمد عز قبل أن يصبح هو الذي يسمح أو يمنع الآخرين من التعبير عن الآراء والأفكار؟
لا وجود سياسياً لأحمد عز قبل أن يكوّن ثروته بالطريقة التي حيرت الكثيرين. هذا يعني أنه اشترى الوجود السياسي كما اشترى الغيتار. وعاش في دور «الزعيم» السياسي كما عاش في دور الموسيقار. كلها محاولات للخروج عن «حدوده»، لكن باستخدام ثروته لا مواهبه أو قدراته.
وهذا ما يجعله يشتري «المنظر» ولا يجتهد في صناعته. يوظف آلاف الباحثين والمستشارين ليبدو قريب الشبه من سيناتور في الكونغرس الأميركي، وبينما يتحدث باسم حزب حاكم يعتمد على أنه نصير «العمال والفلاحين»، فإن عمال شركاته لا يجدون طريقاً لاستعادة حقوقهم سوى بالاعتصامات المتوالية.
وكما يقول المثل المصري «يلي اشترى غير يلّي ربى»، فإن أحمد عز الذي اشترى مكانته السياسية لا يعرف السياسة إلا من طريق واحد فقط: شراء
الولاء. وهو عدّ رئيس وزراء ايطاليا، سلفيو برلوسكوني، مثله الأعلى. وربما لا يعرف أنه رمز فساد الحياة السياسية في أوروبا كلها.
أحمد عز هو أعجوبة نظام مبارك السياسية، هو تجسيد لمثل مصري آخر «عملناها ونفعت». أحمد عز الابن المخلص لنظرية «نشتري كل شيء». هل ستدخل النظرية القفص معه؟ يبدو من انطفاء أحمد عز أنه لم يكن القرص الفعال في تنظيم المال المتطرف، وأن هناك الآن أقراصاً تدور في القاهرة لكن مركزها في لندن، تحاول إعادة دوران العجلة (عجلة الإنتاج) على تروسها القديمة.
لندن هي إدارة جيش الدفاع الأخير عن مبارك. مبارك ليس مهماً في حد ذاته. المهم استعادة خطوط الاتصال وشبكات المصالح، حتى لا تجف ينابيع الثروة أو على الأقل حتى يهرب نجوم الثروات الزاهرة الى السكن بجوار عز في طرة.
لندن عاصمة «الديناصورات» الاقتصادية، فيها يجتمع شمل أنواع مختلفة من أصحاب الثروات، يخططون ويعقدون صفقات جديدة مع وكلاء في الصحافة والإعلام والاقتصاد الصغير. ومن لندن الى القاهرة يتسرب الديناصورات عبر أشخاص يجيدون أداء دور الواجهات، وعبر رسالة إعلامية تقول: «كفاية ثورة بقى... عاوزين نرجع للشغل».
أي عودة؟ ولمصلحة من؟ وهل ستدور الدائرة من جديد لتذهب الأرباح والعوائد لمصلحة «الشلة» الصغيرة، بينما يتفرج الملايين على الثروات من خلف أسوار شفافة، تعيش خلفها سلالات حماها مبارك وحمى بها عرشه وأصبح أول رئيس في مصر يمتلك ثروة.
لندن المجموعة الأقوى وتبدو مركز القيادة في حرب منظمة يشنها رجال أعمال تربوا في مزارع مبارك.