الطائرات المقاتلة ظلّت تحلق ٣ أو 4 أيام. سكان وسط القاهرة أصابهم ذعر وضيق مع فرحة خفيفة. الفرحة كانت بعودة المقاتلات، بعدما ظهرت آخر مرة لإثارة الرعب قبل إجبار حسني مبارك على مغادرة قصر الرئاسة. المقاتلات عادت للاحتفال، بعد غياب أكثر من ٣٠ عاماً حين ظهرت قبل اغتيال السادات بلحظات في استعراض ملوّن، يستكمل رغبة الأخير في صناعة عظمة عسكرية، يبدو فيها فرعوناً منتصراً. السادات اقتنصته رصاصات الجماعات الإرهابية بعد لحظات من صورته بالصولجان الى جانب مبارك، آخر جنرالات جمهورية التحرّر الوطني. اغتيال أُلغيت بسببه كل الاحتفالات الفرعونية بالانتصار في حرب تشرين، لكنّه لم يلغ العادات الفرعونية في محو إنجازات سابقيه، واختزال الحرب كلها في بطولة خاصة. غابت هذا العام الروايات الكبرى عن «الضربة الجوّية»، بعدما أصبح بطلها في قفص المحاكمة. ظهرت على السطح روايات البطولات المنسية، وخاصة الفريق سعد الدين الشاذلي، قائد الأركان المنبوذ في الروايات الرسمية عن الحرب.
رحل الشاذلي عن الدنيا ليلة خروج مبارك من السلطة في مفارقة استعاد فيها الراحل مكانه في الروايات الشعبية والإعلامية. إشارات الى رغبة في استعادة الأجزاء المشطوبة من روايات الحرب، وهذه «ثورة» على روايات السلطة أو حاشيتها الحارسة لبطولاتها. ليست الروايات في حدّ ذاتها، لكنها من ضمن حزمة «انتزاع السلطات» من دولة أُقيمت على ابتلاع السلطة لكل شيء. الثورة تحاول، بكل ما تملكه من طموح، أن تنتزع من ورثة الجنرال الأخير، هذه السلطات، بينما هم في ارتباكهم يستعيدون أدوات من المخازن القديمة. المشير حسين طنطاوي لم يقل جديداً في خطاب ذكرى الحرب، غير الربط بين شباب «٢٥ يناير» وشباب «٦ أكتوبر»، فيما يظهر اللبس بين مرجعية الحرب ومرجعية الثورة. الحرب هي استعادة الدولة لهيبتها بعد الهزيمة، أما الثورة، فهي إعادة بناء للدولة لكي لا تصبح نرجسية السلطة وأبويتها هي مقياس الوجود. مبرّر الحرب لم يكن في مواجهة الاستبداد، على عكس الثورة التي قامت في الأساس ضدّ «تسلط» الدولة وجبروتها النرجسي في مواجهة الفرد. استفزت جمهور العالم الافتراضي لقطات مصورة قُبيل الاحتفال بالنصر لمجموعات من جنود يرتدون الملابس العسكرية ويطاردون متظاهراً أمام مبنى ماسبيرو (مقر اتحاد الإذاعة والتلفزيون). هؤلاء الجنود أقاموا حفلة على متظاهر فرد وقع وحده فريسة مشاعر تُثير الدهشة والاستغراب، فأي خطاب تغسل فيه أدمغة الجنود ليكونوا بهذا القسوة؟
قارن من استفزتهم اللقطات بين انتصار الجيش على اسرائيل وانتصاره على المواطن الفريسة. بدت المفارقة كاشفة عن وعي الجمهورية القائمة على سحق الفرد. سحل المتظاهر عودة إلى رسائل الرعب: نحن موجودون بكل قسوتنا وقوتنا. رسائل تستكملها المقاتلات في احتفال بالنصر بعد استعادته من جوقة الدكتاتور وأسطورته.
أيُّ الرسائل أقوى؟ الحرية، أم إعادة النصر إلى أصحابه؟ أم هما معاً؟ أم أن الاستبداد سيقوى بالأبطال الجدد؟ هذه هي متاهة «أكتوبر» في الربيع. متاهةٌ تحول فيها الهتاف من الشعب والجيش يد واحدة الى يسقط يسقط حكم العسكر، فكيف حدث التحول؟ وكيف انتقل الثوار من التصوّر مع الدبابات الى الخوف منها والرعب من راكبها. التحوّل كان نتيجة منطقية لانتقال المجلس من موقع الراعي للمرحلة الانتقالية الى طرف في عملية التحول السياسي. أراد أن يرعاها ويسيطر على حركتها. رغم أنّ هناك فرق سرعات بين إرادة ثورة شابة تكسر جدران الدكتاتورية وإرادة مجلس عسكري ينتمي الى النظام القديم ويريد وضع الثورة على عجلاته.
وهذا الفارق لم يكن أزمة عابرة، بل ظلت تتضخم آثاره حتى وصل الى مرحلة فقدان الثقة، ورغبة معلنة في تجاهل الثورة والعودة الى نفس العقلية القديمة التي لخصها أحد مستشاري الشؤون المعنوية بالقول إن «المجلس صابر على الشعب صبر أيوب».
الروح المصرية استفاقت يوم ٢٥ يناير بعدما بهدلتها أنظمة الاستبداد. واذا أراد المجلس أن يكون مبعوثاً فعلاً للإنقاذ، فعليه أن يتواضع قليلاً ويدرك أنّه مؤسسة في الدولة لا فوق الدولة. فالمجلس في مهمة سياسية قصيرة المدى. حصل عليها من ثقة الشعب في مؤسسة الجيش، الشعب الذي نزل الميادين بداية من ٢٥ يناير.
ليس كل الشعب، لكن قوته الثورية، التي راهنت على حياتها من أجل مستقبل بلا قمع ولا قهر. الثورة قامت بخيال تحرّر من استعباد السنين الطويلة، والمجلس عاد الى خيال مبارك. هذا الخيال الذي صور أنّ لملمة أحزاب في مكتب الفريق سامي عنان ودفعهم الى توقيع وثيقة تأييد للمجلس سيحلان فجوة الثقة التي وضعت الثورة في مواجهة المجلس.