الأم التي أنجبت شرارة الثورات العربية تبدو محبطة هذه الأيام. الحماسة انطفأت لدى أبناء مدينة سيدي بوزيد التونسية، بينما تجري الاستعدادات لانتخابات المجلس التأسيسي. شبابها العاطل من العمل يجالس المقاهي ويحرق دخان التبغ في صدوره ويتسكّع في الأزقة ويردّد «لا.لا.لا... لن أنتخب، والانتخابات لا تهمني أصلاً. سيدي بوزيد لا تعني شيئاً للأحزاب أكثر من أنها وجهة دعائية».هذا ما يقوله مبروك قدري، العاطل من العمل بعد حصوله على إجازة في اللغة الإنكليزية، وهو يدخن بشراهة ويحتسي فنجاناً من القهوة مع ثلاثة من أصدقائه العاطلين من العمل في مقهى بوسط مدينة سيدي بوزيد.
جولة قصيرة بين مقاهي مدينة سيدي بوزيد وسوقها ومحطة سيارات الأجرة فيها كافية لاكتشاف موجة غضب واحتقان كبيرة لدى فئات واسعة من أهالي سيدي بوزيد الذين يردّدون أنهم لا ينتظرون شيئاً من الانتخابات بعدما فجّروا ثورة «لم يجنوا منها غير السراب».
وتدفقت أغلب القيادات الحزبية إلى سيدي بوزيد في إطار حملاتها الانتخابية سعياً إلى استقطاب ناخبين من المدينة. بل إن حركة النهضة الإسلامية، الأوفر حظاً، أطلقت حملتها الانتخابية من هذه المدينة. لكن مرور الأحزاب في المدينة التي تتنافس فيها 65 قائمة انتخابية لا يبدو مقنعاً. ويقول بسام ساخراً «في السابق كان شخص واحد يكذب هو بن علي، أما اليوم فقد أصبحوا مئة». ويؤكد سمير «لا نزال نشهد الأساليب ذاتها. تأتي الأحزاب وتوزع عشرة دنانير (خمسة يورو) هنا و20 ديناراً هناك لنشارك في اجتماعاتها أو لنوزّع مطوياتها».
ويقرّ عمر (20 عاماً) بأنه لقاء خمسة دنانير وسندويش صعد إلى حافلة في نهاية أيلول للمشاركة في اجتماع في العاصمة للاتحاد الوطني الحر، وهو حزب حديث يتزعمه رجل الأعمال الثري سليم الرياحي الذي يشكّك خصومه في مصادر أمواله. وفي مقهى بوسط المدينة، يؤكّد مبروك قدري، وهو يجالس رفاقه العاطلين من العمل، «ما أريده فقط هو أن أعمل لأعيش بكرامة. الانتخابات لا تهمني أصلاً. السياسيون لم يهتموا يوماً بسيدي بوزيد واليوم يتدفقون عليها للترويج لأحزابهم، لكننا لن نثق بهم أبداً».
ويقول وليد الطاهري، الحاصل على إجازة في الإعلام وهو عاطل من العمل أيضاً، إن ما دفع الشباب إلى الثورة هو البطالة، ولكن الحال على ما هي عليه بل أسوأ مما كانت. ويضيف «نحن محبطون جداً. بعدما قمنا بالثورة، نشاهد المنظومة الديكتاتورية نفسها تعود من جديد. الحريات قمعت من جديد وكل ما نسمعه وعود».
المنجي العيفي، الفلاح الذي تجاوز خمسين عاماً، يبدو غير مكترث أيضاً ويقول «لا شيء تغيّر في سيدي بوزيد. الوضع كارثي. لا أثر لأي استثمارات في المدينة، على عكس كل الوعود. صراحة، لسنا متحمسين للانتخابات، بل أصبحنا متحمّسين وجاهزين لثورة ثانية، لأن المحسوبية وثراء رجال أعمال النظام السابق ازدادا وازدادت حاجة الفقراء هنا».
في المقهى نفسه يجلس شابان، أحدهما حاصل على الدكتوراه في الفلسفة والثاني على دكتوراه في علم الآثار. يقول أحدهم «كيف يمكن الحديث عن الانتخابات ونحن قضينا عمرنا ندرس دون أن نجد فرص عمل». ويضيف الثاني «عمري 35 عاماً، وحتى الآن أحصل على مصروف يومي من والدتي لأشتري دخان».
في شوارع المدينة يعترضك بسام ومحمد وعمر وخليل، وجميعهم عاطلون من العمل، وتتراوح أعمارهم بين عشرين وثلاثين عاماً، وقد شاركوا في انتفاضة سيدي بوزيد. ويقول يوسف الطرابلسي، صاحب قاعة رياضة، «عانينا دائماً من نظرة احتقار، وستحفظ كتب التاريخ ثورة 14 كانون الثاني في تونس لا ثورة 17 كانون الأول في سيدي بوزيد». ويرى أهالي سيدي بوزيد أن عائلة محمد البوعزيزي، الذي فجر الثورة بإحراق نفسه، كانت الوحيدة المحظوظة في المدينة. فبعدما تلقّت مساعدات من عدّة جهات محلية ودولية، انتقلت الآن للعيش في ضاحية المرسى بالعاصمة تونس، لتودّع بذلك الفقر نهائياً، بعدما ودّعت ابنها الذي يُنظر إليه على أنه بطل وملهم.
وبحسب المدرّس والنقابي سليمان الرويسي، فإن 40 إلى 50 في المئة من شبان المدينة لا يرغبون في التصويت. ويضيف «هناك أزمة ثقة بين الشعب والسياسيين، وكثرة في الأحزاب المتنافسة، والانطباع أنه ما من شيء تغيّر» في البلاد.
أما فتحية النصيري، رغم أنها تعاني من الفقر، لكنها لم تفقد الأمل. وتقول «نعم الانتخابات تهمّ الجميع، وسأعطي صوتي لمن يستحق. أنا لديّ أمل في أن يوفّروا فرص العمل. يجب أن نعطيهم فرصة كافية. أما إذا نكثوا هم أيضاً بوعودهم فسننزل إلى الشارع من جديد، ومستعدون للموت».
(أ ف ب، رويترز)