استفاق سكّان العاصمة تونس منذ أيام على صورة عملاقة للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي تحتلّ جدار مبنى كبير في أحد شوارع تونس المزدحمة. توقّف المارّة أمام وجه بن علي الباسم مصعوقين ورمقوه بحنق، السائقون مدّوا رؤوسهم من النوافذ وتمتموا كلمات غاضبة، أصحاب المحال خرجوا مندهشين يفتشون بصمت عن الفاعلين. شاب جحظت عيناه وانقطعت أنفاسه للحظة، قبل أن يركض عدد من المتجمهرين لنزع الصورة عن الحائط. وعندما نجح هؤلاء بإنزالها، فوجئ المتفرجون بملصق آخر ظهر تحت الصورة مباشرة يقول: «استفق.

الديكتاتورية يمكن أن تعود. صوّت في ٢٣ تشرين الأول المقبل». لم تكن تلك «المزحة السمجة» إذاً سوى جزء من حملة إعلانيّة لمنظمة مدنيّة تدعو المواطنين التونسيين إلى الاقتراع يوم الأحد (غداً). تونس تقترع غداً، للمرة الأولى بعد خمسين عاماً من حكم الحزب الواحد. البعض يرى أنه اختبار لما سمّي «الربيع العربي» برمّته، فإما أن تنجح «أمّ الثورات» بالامتحان أو يكسب المبشّرون بـ«خريف كئيب» رهانهم. البعض الآخر يقول إنه لا شيء سيبقى على حاله بعد الانتخابات، فيحتفظ بتفاؤل التغيير فقط، بغض النظر عن النتائج... أما الشعور الغالب عند التونسيين فقد طغت عليه حيرة مؤرقة: تنافس عشرة آلاف مرشّح في ١٦٠٠ لائحة لأكثر من مئة حزب على ٢١٧ مقعداً أمر قد يحيّر شعوباً مارست العمل الديموقراطي منذ نشأتها، فكيف الحال بالنسبة إلى الخارجين للتو الى الحرية بعد أعوام من الديكتاتورية وحكم الحزب الواحد. حيرة لا تأتي كلها من فراغ أيديولوجي أو عقائدي، بل نتجت من مجموعة من الأسئلة الأساسية التي طرأت على تفكير المواطن التونسي أخيراً: كيف أعرّف عن نفسي كتونسي؟ ماذا أريد؟ أي علاقة أريد أن أبنيها مع الدولة؟ ما هي مطالبي الأساسية؟ ما هو نموذج الدستور الذي أسعى إلى نصّه؟ أي حكم يحفظ لي حقوقي ومستقبلي وثورتي؟ هل أفضّل دولة دينية أم مدنية؟ ٧٢% قالوا إنهم ينوون الاقتراع، بينهم ٣٤% لا يعرفون لمن سيقترعون. و٤٧% أشاروا الى أن اختيارهم ليس نهائياً بعد، هذا ما أظهره أحد استطلاعات الرأي في شهر أيلول الماضي. حيرة على مستوى الوطن، وخشية من تدني نسبة الإقبال على الاقتراع، وحذر من عودة بعض رموز النظام السابق... أما الأكيد الوحيد فهو تسليم جماعي بفوز حزب «النهضة» الإسلامي بنسبة لا تقل عن ٣٠% من المقاعد. الإسلاميون حضروا في كل التحليلات والملاحظات التي وضعها المراقبون والباحثون وبعض المرشحين التونسيين على المشهد الانتخابي وتداعيات نتائجه على مسقبل البلاد والمنطقة. وقد ساهمت أحداث جامعة سوسة الأخيرة ضد منع منقّبة من الدخول واعتداء إسلاميين على تلفزيون «نسمة» بعد عرض فيلم «بيرسيبوليس» منذ أسبوعين، في تزايد المخاوف وتكثيف علامات الاستفهام حول هوية تونس المستقبلية إذا وصل الإسلاميون الى الحكم فيها. مسؤولو حزب «النهضة» الإسلامي تبرّأوا من الأحداث العنفية الأخيرة. وبعض المراقبين أكدوا ابتعاد الحزب عن مسار السلفيين، لكن بعض المشككين حذّروا من نيات «النهضة» والازدواجية بين خطابه وأفعاله وغموض موقفه حيال قضايا مهمة كحقوق المرأة، كما نبّهوا من وقوف دول خارجية خلفه ودعمه سرّاً.


إسلام وديموقراطية


حسام وفهد وعلي، ثلاثة «ملتحين» متدينين عبّروا عن آرائهم في تحقيق نشرته صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية من تونس. «نحن لسنا سلفيين. تلك هي صفة أطلقها النظام السابق علينا لتشويه سمعتنا أمام الشعب ولتبرير قمعنا»، يقول فهد. حسام يعترف بأنه «قريب من السلفيين لجهة اتباع تعاليم القرآن والسنّة، وهو معجب أيضاً بالإخوان المسلمين لجهة تنظيمهم وتظاهراتهم». علي يعلن أنه لن يصوّت لحزب «النهضة» «لأنه منفتح على العلمانيين». أما حسام فيرفض الديموقراطية، كما يشير التحقيق، ويقول «إن الأحكام تأتي من الله لا من الشعب». «الإسلام والديموقراطية ليسا متناغمين فحسب، بل هما صنوان لا يفترقان»، يشير سيد فرجاني، المتحدث باسم حزب «النهضة»، في مقابلة مع مجلة «لو نوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية. فرجاني عبّر عن أمنية حزبه ببناء دولة مدنية ديموقراطية واستحداث نظام سياسي قوي ومتين. المسؤول في حزب «النهضة» يعلن عن نيته تقديم «نموذج حكم جديد للعالم». ويردف «سنقول للغرب توقفوا عن اعتبار كل ما يأتي من الاسلام إرهاباً، وسنقول للمسلمين إن الغرب ليس عدوّكم». ولمزيد من «التطمينات» للخارج والداخل، يضيف فرجاني إن النظام التونسي الذي يطمحون إليه هو «نظام برلماني لدولة مدنية دينها الإسلام ولغتها العربية فقط، من دون أي ذكر للشريعة» كما يوضح. ولدى سؤاله عن الجناح المتطرف داخل حزبه، يجيب فرجاني «قد نختلف أحياناً على الطريقة، لكن هناك اتفاقاً كلياً على الاستراتيجية. فنحن براغماتيون لا ننتمي الى مدرسة عقائدية معينة. فليس صدفة أن معظم مسؤولي الحزب فضلوا النفي الى بلدان غربية، لا الى السعودية». ويختم «نحن أقرب الى الإسلاميين الأتراك». لكن التونسية صوفي بيسيس، مديرة الأبحاث في «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية» في باريس، لديها نظرة مختلفة تجاه الـ«النهضة» وتساؤلات حول نيات الحزب وتشكيك في خطابه المعلن. بيسيس تعترف للحزب بأحقيته بأن يلعب دوراً في المشهد السياسي التونسي وبقدرته على ذلك، معتمداً على «قوته التنظيمية والدعم المادي الداخلي والخارجي الذي يتمتع به». لكن الباحثة تسأل عن ازدواجية خطابه الفاقعة «إذ يتبنى مبادئ الديموقراطية، لكنه لا يلجم إحدى مجموعاته المتطرفة كحزب التحرير ولا ينهيها عن أفعالها على أرض الواقع». ازدواجية أخرى تشير إليها بيسيس حول وضع المرأة وحقوقها ومساواتها مع الرجل التي تضمنها القوانين التونسية، وتذكّر بكلام راشد الغنوشي أنه «سنحترم تلك القوانين المتعلقة بالمرأة حتى تصبح تونس مستعدة لوضع آخر»، «ما هو هذا الوضع؟ لا نعرف»، تقول بيسيس.


مصادرة الثورة؟


لكن نظرية أخرى تقول إن الصراع في تونس اليوم ليس بين «إسلاميين» و«غير إسلاميين»، بل هو أكثر تعقيداً وتتداخل فيه العوامل الاجتماعية والعادات والقيم. هذا ما يشير إليه فينسان غيسير، الباحث في «معهد دراسات الشرق الأدنى» في بيروت. غيسير يقول إن «الغرب يعتقد مخطئاً أن تونس كانت دائماً بلداً علمانياً، ليس صحيح، فالإسلام كان دائماً الديانة الرسمية للدولة وهو يدخل في معظم مؤسساتها». لذا، يشرح غيسير أن «معظم التونسيين واليساريين ضمناً ملتزمون بذكر الإسلام في الدستور الجديد، لا كمرجعية دينية بحتة بل كمرجعية ثقافية أيضاً». من هنا، يستنتج غيسير أن تونس لن تنتقل الى نظام علماني، ويقول «هو أمر مؤسف، لكن لا يمكننا أن نعارض عقلية خاصة وطريقة عيش وتفكير يتماهى معها الشعب التونسي... وإلا عدنا مجدداً الى الديكتاتورية». لكن غيسير يحذر من مغبة دعم بعض الدول الخليجية للحركات السلفية في تونس لأن «تلك الدول ستسهر على عدم إحلال الديموقراطية في تونس، كي لا تصبح نموذجاً تستوحي منه شعوب العالم العربي كلها». ريجيس سوبرويار يسأل في مجلة «ماريان»: «هل هبّ الهواء الإسلامي على الربيع العربي؟». ويقارن في مقاله بين التشتت الذي يصيب صفوف اليسار التونسي وبين التنظيم ووضوح الرسالة التي يتميز بها حزب «النهضة» الإسلامي، مع تحذيره من «مصادرة الإسلاميين لمكتسبات الثورة». وبالعودة الى الحيرة التي تعتمر التونسيين قبيل استحقاقهم المهم، تقول المرشحة للانتخابات التونسية، النقابية نجاة ميزوري، في مقابلة مع «لو نوفيل أوبسرفاتور» ، إن حزب «النهضة» الإسلامي يكسب معركة الحيرة تلك، إذ إن بعض التونسيين سيصوّتون له من منطلق أن «ما تعرفه أفضل مما تجهله».


 




«باب باب، دار دار»


قرار منع السلطات التونسية للإعلانات الانتخابية السياسية، الشهر الماضي، نزل كالصاعقة على الأحزاب اليسارية التي كانت تعتمد على التسويق الإعلامي للتواصل مع معظم المترددين في أنحاء تونس. مؤسس «الحزب التقدمي الديموقراطي» أحمد نجيب الشابي رأى أن القرار «قضى على فرصة مخاطبة ٥٠% من المقترعين». هو يقول إن الأحزاب غير الدينية «تواجه أحزاباً إسلامية متموّلة، تقدّم الهدايا للناس، وتعتمد اللعب على وتر الدين لاستمالة جمهورها». ورغم قرار المنع، فقد انتشرت على مواقع التواصل الإلكتروني أشرطة لا تسمّي حزباً معيناً، لكنها تحذّر من «التطرف»، وتصوّر الوضع المأسوي في ظل حكم «المتطرفين»: ضرب السياحة، شلّ الاقتصاد، المرأة تُسلب وظيفتها وتسجن داخل منزلها. حزب «النهضة» الإسلامي، عندما يسأل، من جهته، عن كيفية قيادة حملته الانتخابية يجيب: «نقرع الأبواب، باباً باباً، من دار الى دار».



أحد الأشرطة الإعلانية الانتخابية غير الموقّعة