البارد | يلح الحاج زياد، قبل التحدث عن وضع تلاميذ مخيم نهر البارد، وأزمة تراجع المستوى التربوي، الذي لطالما كان الفلسطيني يتباهى به، يلح علينا للقيام بجولة معه على الطرقات المؤدية إلى مدارس الأونروا، محاولاً إظهار الظلم الذي يلحق بالصغار وهم يقطعون ما يربو على كيلومتر ونصف كيلومتر من الطرقات الترابية، محمَّلين بمحفظة مدرسية يشكو من ثقلها طلاب «العالم».ولأن المطر لم يكن قد انهمر بعد، فقد كانت الطرقات الترابية لا تزال بخير، لكن «تصور حال التلامذة بعد سقوط المطر»، يقول لنا الحاج، مستطرداً أنه حتى في الأيام المشمسة فإن إنهاك الطريق يجعلهم يصلون وهم يتصببون عرقاً «تخيل رائحتهم عندما يصلون، وخاصة في الصفوف المكتظة» يقول. وبينما يروي معاناة التلامذة الصغار لعدم تمكن الأهالي من نقلهم بواسطة الباصات، بعدما عجزت اللجان الشعبية عن إقناع الأونروا بتأمين وسائل النقل، يشير إلى أربعة أولاد يلعبون على شاطئ البحر، قرب المدرسة. ثم يقول «إن لم أخطئ، فهذا ابن (فلان الفلاني)، وقد سألته عن سبب وجوده خارج الصف، فأجاب إن والده لم يعطه 16 ألف ليرة ثمن المريول المدرسي، فأخرجه المدير، ولا يريد العودة إلى المنزل خوفاً من عقاب الوالد، فهو لن يصدق أن المدير قد أخرجه من الصف لهذا السبب. لذا يقضي الدوام هنا».
«من السجن إلى مدينة الملاهي» هكذا يصف الحاج جمال فلاح انتقال تلامذة البارد من أجواء بيوتهم إلى الأجواء في مدارسهم، حيث يُطلب الى الأساتذة اتّباع مناهج في التعليم تمنع القصاص عن تلامذة تربوا على سياسة الثواب والعقاب في المنزل. وعلى نحو أدق هكذا يصف الفرق بين القيم المنزلية المنتشرة في مجتمعات المخيمات، والقيم المدرسية «المنزلة» على مجتمع لا يمكن أن تكون فعالة فيه، مشدداً على أنه «والله لا تنقصنا المعرفة بأساليب التعامل الحضاري مع التلميذ، ولا نكره التربية الحديثة، لكن كيف لتلميذنا أن يحترم الأستاذ على أساس مناهج لـ «نلعب ونتعلم»، ما دامت كل حياته قائمة على الفقر والعوز، وما يصاحبهما من عنف في المنزل والشارع؟».
هذه السياسة المعتمدة في مدارس الأونروا، يحلو للحاج جمال تسميتها «السياسة التجهيلية»، متسائلاً كيف يمكن 52 طفلاً أن يتعلموا في غرفة صف واحدة؟ هكذا، يذكر أنه في أحد الأيام دخل غرفة صف ابنه في الثالث الأساسي ليتحدث إلى المعلمة، وبينما كانت الـ«هوزاعة»، أي الضجة الأقرب إلى الزعيق باللهجة الفلسطينية، تملأ الغرفة، صرخت طفلة بباقي رفاقها أن يصمتوا قليلاً لتتمكن من سؤال رفيقتها عن جملة مكتوبة على اللوح، ولم تتمكن من قراءتها.
ويدافع أهالي المخيم، الذين ما زالوا أقرب الى المجتمعات القروية، عن الأساليب التقليدية في التعليم (ومنها التلقين وبعض القصاص)، وخصوصاً أن معظم الأطفال لم يخرجوا من المخيم إلا أيام «اللجأة» حسب تعبيره، أي خلال لجوئهم إلى مناطق خارج المخيم بعد تدميره، وهذا ما لا يأخذه بالاعتبار منظمو برامج التربية في الأونروا. وينتقد معظمهم تصميم الأونروا على «تطبيق مناهج التعليم الحديثة التي تفترض أن التلميذ يعرف السينما والمسرح، وأنه شاهد محطة القطار والمطار والميناء والساحل والجبل»، ولا يعلمون أن مخيم البارد كان أشبه بقرية مغلقة، وأول فرصة لمغادرة المخيم كانت كارثية على المستوى الإنساني عموماً، وظهرت أبعادها لاحقاً في مشاكل التعلم.
هكذا يتحدث وسام رضا مسؤول مؤسسة الشباب والأطفال الفلسطيني، التي تستقبل أكثر من مئة تلميذ من مخيم نهر البارد، لمساعدتهم على تجاوز مشاكلهم التعلّمية، قائلاً إن اهتمامات المؤسسة كانت رياضية واجتماعية، لكن مع تدمير المخيم طرحت مشاكل أكثر أهمية، وهي مساعدة الأطفال على تجاوز الصدمات النفسية الناتجة عما تعرضوا له أثناء مغادرة المخيم، وما رافقها من مشاكل معيشية وتفكك أسري، انعكس في أنواع مختلفة من الأمراض السلوكية لدى الأطفال، مثل العدوانية والانطوائية والتأخر المدرسي.
ويضيف رضا إن أهداف المؤسسة متواضعة جداً قياساً بحجم المشاكل التي يعانيها الأطفال في منازلهم، إذ لا تستطيع المؤسسة بإمكاناتها المتواضعة أن تعوض التلميذ عن خسارة أحد أفراد أسرته، أو التشرذم العائلي بسبب انعدام مجالات العمل داخل المخيم.
أما رئيس اللجنة التربوية في مخيم البارد أحمد نجيب، الذي عايش مشاكل المخيم منذ لجوئه الأول إلى البارد قادماً من فلسطين عام 1950، فيرى أن المشاكل التربوية التي يعيشها أطفال المخيم اليوم، لم يعرف لها مثيل حتى يوم كان هو يتعلم «مع رفاقي على الحصير، وحتى يوم كان الفقر قاسياً لدرجة أننا كنا ننتظر الخبز ليأتي إلينا من بيروت»، ومع ذلك كانت العملية التربوية «جزءاً من نسيجنا الفلسطيني». ولا يرى نجيب في قوانين التعليم في مدارس الأونروا شيئاً جديداً ومختلفاً عما كان معمولاً به سابقاً، لكن الجديد أن الأساتذة مثل سائر موظفي الأونروا صاروا مجرد «مراسلين لوكالة الأونروا»، كما يقول، قاصداً أنهم أصبحوا مجرد موظفين غير معنيين بتلك القيمة الزائدة التي كانوا يضيفونها من قلوبهم مخلصين، للتأكد من استفادة الطلاب من المناهج غير المصممة أصلاً لحالتهم، ولم يعد الموظف يجرؤ على أي سلوك يتجاوز فيه أوامر رؤسائه.
ويفصل قائلاً إن «المدرس يوقع تعهداً بعدم الإساءة إلى التلميذ جسدياً ومعنوياً»، لكن الأهل كانوا متعاونين مع الأساتذة، وكانوا يطبقون مبدأ العقاب والثواب، انطلاقاً من العلاقات الأهلية. أما اليوم، فقد أصبح المدرّس، بسبب التفسخ الاجتماعي القائم، وخصوصاً بعد خراب المخيم، في موقع المدافع عن نفسه إذا اتخذ أي قرار داخل الصف بالنسبة إلى طريقة محاسبة المقصرين أو العنيفين أو العدوانيين من الطلاب، لا بل إنه أصبح يتردد في محاسبة أي تلميذ، لأن رئيس اللجنة التربوية في الأونروا ـــــ يقول نجيب متهكماً ـــــ أعطى عنوان بريده الإلكتروني «دبليو دبليو دبليو» لكل أهالي المخيم، محذراً من مغبة التعرض لأي تلميذ.
لم يكد نجيب ينهي كلامه حتى مرّ بضعة تلامذة عائدين من المدرسة، وكانوا يتقاذفون بالحجارة على سبيل اللعب، فخرج صاحب الدكان يصرخ بهم خشية تكسير واجهة محله بحجارتهم، فعلق نجيب بما معناه «تلك هي نماذج من ألعاب أبنائنا»، متسائلاً عن مدى فعالية «لنلعب ونتعلم» مع أولاد، هذه هي نماذج صغيرة عن طرق لعبهم وتسليتهم في أوقات الفراغ!



نقلت وكالة القدس للأنباء أن مئات الطلاب من مخيم نهر البارد اعتصموا داخل مدرستي جبل طابور المتوسطة وثانوية عمقا، احتجاجاً على تجاهل إدارة الأونروا مطلبهم تأمين باصات لنقلهم من المدارس وإليها، كما نقلت تصريح عضو اللجنة الشعبية في المخيم، أبو عامر خضر، بأن تجاهل الأونروا مطالب الأهالي، من شأنه أن يدفع هؤلاء إلى متابعة تحركاتهم على نحو متصاعد، وخصوصاً أن هذا المطلب ملح لجهة بدء فصل الشتاء، حيث حمل الأونروا المسؤولية الكاملة عن أية تبعات قد تنتج عن التأخير في معالجة هذه القضية، وتؤثر في قدرة الطلاب على متابعة دراستهم على نحو سليم.