تونس | قد لا تكون السنوات 16 التي قضاها الأمين العام لحركة النهضة، حمادي الجبالي، في السجن، إلّا سنوات صقلت معرفته السياسية وجعلت منه أكثر دبلوماسية ليخرج إلى العالم سنة 2006 بمخيلة جديدة وعقل سياسي مزج فيه بين الفكر السياسي الإسلامي والفلسفة البراغماتية الحديثة، فكان بمثابة مكيافيلي. وكان دوره ملحوظاً في بروز قطب سياسي جديد بخصائص أدخلت حركات الإسلام السياسي إلى عالم جديد «عالم البراغماتية الإسلامية»، حيث بدأ «مكيافيلي النهضة» منذ فجر ثورة 14 كانون الثاني الماضي بإبراز عضلاته التي كانت خاملة أيام «التيه» و«الظلم» و«الطغيان» في دهاليز السجن وعلى أيدي أعوان الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. نعم كان مكيافيلي حاضراً في حركة النهضة، متأصلاً في شخص الجبالي، حيث ظهر وزيراً لـ«الأمير» العائد من المهجر ليجد نفسه قائداً أعلى لأبرز الحركات السياسية في تونس منذ أيام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. «الأمير» الذي كان لاجئاً سياسياً في عاصمة الضباب لندن، أتى إلى تونس ليجد أن الجماعة التأمت وشرعت في «اللعب» على حبال الثورة، ليعود «الأخوة» في النضال ليلوّنوا المشهد السياسي الجديد، ويعطوا للإسلاميين مكاناً على سطح الأحداث بعدما اجتثوا وغرقوا في قعر «بحر ظلمات» الرئيس المخلوع.
وطغت البراغماتية على استراتيجية «مهندس الطاقة»، بعدما اختار ترك عمائم الوعاظ، وعكاز الأئمة ليتجه إلى «البدلة» الغربية، وربطة العنق العصرية، ليؤذن بميلاد «فجر» نهضوي جديد، ووحش سياسي مستجد، طغى ظله على أكثر من 40 في المائة من مقاعد المجلس التأسيسي وليكون صاحب الأمر والنهي، ما سمح له أن يلقب نفسه بـ«سادس خليفة» في العصر الحديث بلغة «الراشدين من أسلاف العصر الوسيط».
وحمادي الجبالي متخرج الهندسة من عاصمة الأنوار باريس، من مواليد مدينة سوسة الساحلية (130 كلم عن العاصمة)، طفى اسمه على سطح مياه السياسة التونسية الراكدة في أول الثمانينات عندما اعتقل زعماء حركة الاتجاه الإسلامي سنة 1981، مما سمح بانتخابه من طرف مجلس شورى الحركة رئيساً للحركة، حيث أدار دفة «الاتجاه الإسلامي في أحلك فترات التاريخ التونسي قتامة في أول الثمانينات».
ولعله من سمح للحركة بتوسيع علاقتها بالوسط السياسي إلى حدود سنة 1984 عندما رجع الزعماء من جديد على رأس الحركة، ومن ثم إلى حدود سنة 1987 عندما أعيد اعتقال الزعماء ليجد الجبالي نفسه من جديد في الواجهة لـ«إدارة الأزمة» وتوجيه الصراع السياسي على رأس الحركة، عندما هرب إلى إسبانيا لاجئاً سياسياً، فلم يجد بداً بعد انقلاب بن علي على بورقيبة، ورجوعه إلى تونس، من تأسيس جريدة ناطقة باسم الإسلاميين أطلق عليها اسم «الفجر»، والتي رأس قلمها التحريري إلى أن اعتقل، ليحاكم سنة 1992 أمام محكمة عسكرية ويحكم على إثرها بـ17 سنة سجناً نافذة.
ووجد الجبالي نفسه في زنزانة منفردة لمدة 10 سنوات متواصلة، ليخرج من السجن سنة 2006، وليبدأ من هناك بإدارة «النهضة الجديدة»، التي ستحكم تونس بعدها بـ5 سنوات بفضل الثورة الشعبية التي أطاحت بن علي.
«مكيافيلي» النهضة، كانت له صولات وجولات، تحادث مع الأميركيين، حتى قبل سقوط بن علي. ووفقاً لما أظهرته وثائق «ويكيليكس»، فإن السفارة الأميركية تحدثت معه عن مدى قوة الإسلاميين في تونس أيام كشف أن الرئيس المخلوع مريض بمرض خبيث. وأعاد الكرة من جديد في شهر أيار الماضي، وزار في غفلة من الجميع واشنطن، حيث تحادث مع المسؤولين حول النهضة في تونس، واستعدادها لـ«حكم البلاد»، بعد انتخابات المجلس التأسيسي، حسب مبادئ واشنطن وعملاً بتجربة «العدالة والتنمية» في تركيا. وكان لـ«المهندس» تصور في السيطرة على شؤون السياسة من ثقب «الإسلام الحديث». استراتيجيته واضحة فـ«لكل مقام مقال»: «نتحادث مع الآخر، بلغة الآخر».. فـ«نناكف العلمانيين بمبادئ العلمانية».. و«نواجه العامة بمبادئ الإسلام».. فـ«الحلال بيّن والحرام كذلك بيّن». ونستطيع حتى التحالف مع الشيوعيين... فكل شيء مباح... ما دام ذاك هو الطريق الذي نصل به إلى السلطة.