مشهد لا ينسى عاشته القاهرة أمس. جنود الجيش المصري يتصرفون مثل الميليشيات، يتقافزون أعلى مبنى مجلس الشعب ويكسرون حجارته. يلقونها على المعتصمين ويشيرون بإصبعهم الأوسط، ويتبوّلون. ميليشيات أم جيش؟ ولماذا هم فرحون إلى هذا الحد؟ هل يشعرون بالانتصار عندما اقتحموا الاعتصام ليلاً، وروّعوا المعتصمين العزل؟ هل هؤلاء هم البواسل، كما يسمي الشعب جيشه؟ ولماذا تبدو بسالتهم الآن في مواجهة متظاهرين عزل؟ يخلعون الحجاب عن فتاة ويصفعون امرأة في عمر أمهاتهم، ويسحلون شاباً ويمزقون ظهر آخر بالعصا الغليظة؟ من هؤلاء، ملابسهم متنوعة تنتمي إلى أسلحة مختلفة، يستخدمون الطرق البدائية؛ يستهدفون رؤوس الثوار بقطع من الرخام المسنون، ويلقون من على البنايات الرسمية مكاتب وألواح زجاج وأطباقاً، في مشهد غير مسبوق تقترب فيه الوحدات العسكرية من طبيعة وأخلاق المليشيا، وخصوصاً حين تتوج انتصارها الزاحف بسيول من الشتائم بهدف كسر نفسية الثوار وإهانتهم. من يدير مصر؟ هل المجلس العسكري منقسم على نفسه؟ هل رئيس أركان حرب القوات المسلحة سامي عنان ضد المشير حسين طنطاوي، كما يتصور عشاق الروايات المشغولة في الكواليس؟ هل هناك فريق ضد الاثنين ويرى أنّ الانتخابات تسرق البلد؟
من يحرك أصحاب القبعات الحمراء؟ من يحتفل بالانتخابات ثم يفسدها ليلة الفرز؟ من يختار الجنزوري ثم يحبطه في أول خطوة قبل أن يتمكن من الدخول إلى مكتبه؟ هل هو انقلاب غير معلن؟ انتقام من الرغبة في تسليم السلطة؟ هل يحرق المجلس العسكري المعبد؟ هكذا عدنا إلى مؤسسات الغموض. نرى قفازاتها ولا نرى ملامحها. من يخطط لكل ما يحدث في مصر؟ من يحكم ويدير؟ تبدو من بعيد علامات على وجود مركز سري يحاول إعادة لملمة أشلاء دولة ٢٣ يوليو، وإعادتها في طبعة جديدة. دولة يتحكم فيها الجنرالات، وترتدي كل المسارات المدنية الأقنعة لتدخل تحت سيطرة المسار العسكري. هل هذا صحيح؟ هل هذه مخاوف أو هواجس؟ ربما... وربما أيضاً من طول معاشرتنا لمؤامرات القصور والحجرات المغلقة ودولة الأجهزة السرية نتصور أن هذا قدر السياسة في مصر. هل يمكن أن يسقط النظام وتبقى أجهزته السرية؟ هل تسمح الأجهزة السرية بسقوط النظام، وخاصةً أن السقوط يجري بثورة شعبية لا قوة لديها سوى الأيادي العارية لشباب كسروا حاجز الخوف وهانت لديهم حياة بلا حرية ولا كرامة. لم يكن لديهم خطة سياسية، لكنها حرب الدفاع عن الوجود الحر في بلد لا يقهر فيه الفرد، ولا تهان كرامته تحت بيادات (أحذية العسكر) وإن كانت حنونة.
الاستبداد كان حنوناً في طبعة مبارك، ناعماً مثل حرباء متلونة، ورقيقاً مثل ذئب عجوز، وشرساً مثل وحش لم يعد باقياً من شراسته سوى الأنياب. بالنسبة إلى هذه الأجهزة السرية الثورة ليست ثورة بمعناها الذي يتيح تغيير نظام الحكم وإعادة بناء جمهورية جديدة، إنها انتفاضة أو تظاهرة تعبّر عن غضب شعبي على مبارك.
تفسير الغضب بالنسبة إلى هذه الأجهزة هو الحاشية الجديدة التي أحاط بها مبارك نفسه، أي العائلة ورجال الأعمال. ولهذا فإن هذه الأجهزة السرية ألقت بالحاشية ورئيسها خلف القضبان، كأنهم أسرى لا تريد استكمال محاكمتهم، ولا تقدر على الإفراج عنهم. إنهم أكباش فداء، للجموع الغاضبة، ومثلهم مثل يحيى الجمل وعلي السلمي وعصام شرف، إلى أن وصلنا إلى الجنزوري وحكومته كلها.
والعرض الكبير الآن هو المجلس الاستشاري، أو القفاز الذي يرتديه المجلس العسكري ليبني الجمهورية الجديدة بمنطق يستعيد بها دولة ٢٣ يوليو. جمهورية التسلط المركزية، التي تضع شرعية الحكم في أيدي الأجهزة السرية، تختار هي الرئيس، كما فعلت مع عبد الناصر، وحتى مبارك، وتمنح لاختيارها طقوس الشرعية الشكلية، فالانتخابات لا معنى لها، ولا مؤسسات الدولة، كلها أدوات في أيدي الأجهزة السرية، التي تحتفظ بسر تشغيل الدولة، وقرصها الفعال.
هل هذا ما يحدث، أم أنها كوابيس المرحلة الانتقالية المعقدة؟ الطرق كلها تؤدي الى إعادة دولة ٢٣ يوليو، في محاولة لتفكيك قوة المجتمع من جديد، وباتفاقات وصفقات سرية ومعلنة بين القوى السياسية والمجلس العسكري، الجزء الظاهر من الأجهزة السرية. الإخوان شاركوا في خديعة الاستفتاء على إعلان دستوري حمّال أوجه، وقادر على ضرب الجميع ليبراليين وإسلاميين... ثوار وجيش الدفاع عن الدولة القديمة.
الجميع مهدد بما يسميه شطار المجلس «شرعية» الإعلان الدستوري. وكل المسارات المدنية يجري تدميرها أو خدشها، من الانتخابات التي جرت بطريقة تخرج فيها مشوهة بجهاز بيروقراطي عقيم، وبغض الطرف عن الانتهاكات ليصل النواب بشرعية منقوصة، ويفقد الشعب الإيمان بأن تكون الانتخابات مسار التغيير، أو تداول السلطة.
تتفكك القوة السياسية على أرضية الاستقطاب بين الإسلاميين والليبراليين، وهو استقطاب وهمي، لأنهما في الحقيقة يحملان نفس المشروع السياسي والاقتصادي، كلاهما يتنافس على المنطقة العاطفية ودغدغة المشاعر بلعبة الهوية والحصول على البركة.
لا فرق بين الليبرالي والإسلامي في النظرة إلى المشروع الاقتصادي والاجتماعي، كلاهما لن يمس نظام مبارك، وسيحافظ على دوران ماكينة الاقتصاد لتصب في مصلحة شريحة صغيرة مع زيادة مساحة الإحسان للفقراء. اللعب على هذا الاستقطاب سيؤدي في النهاية إلى صناعة رعب من زحف الإسلاميين نحو البرلمان، واقتراب شريحة من الليبراليين مع الإسلاميين من أداء دور قفازات المجلس العسكري.
متاهة؟ نعم متاهة، هذا ما نشعر به بعد ١٠ شهور من ثورة لم تزل قوتها الأساسية تحمل إصراراً عجيباً على خوض المعارك إلى النهاية، والدفاع عن الحرية، وعن بناء نظام جديد بشرعية ٢٥ يناير، أي الثورة التي استعاد بها المجتمع المبادرة، وفرض نفسه شريكاً في السلطة. وهنا يقترب الصدام الكبير. ليس بين الإخوان والمجلس العسكري كما يبدو محتملاً، فهذا صدام ينتهي بالتفاوض أو القهر، لكنه صدام بين الثورة والمدافعين عن الجمهورية القديمة.

الثورة مستمرة والحسم مؤجل





رغم كل محاولات الإحباط التي تسري في الشارع المصري، إلا أن المؤكد أن الثورة مستمرة، رغم محاولات الكثيرين حرفها عن مسارها. الثورة لم تمت لكنها غير قادرة على الحسم بعد

الثورة ماتت. سرقت. انتهت. ضاعت. أوصاف ويتبعها مصمصة شفاه مع تطويل حزين لمقولة «خسارة يا ثورة». هذا رغم أن مصر تغيرت فعلاً، تحركت من حالة التجميد، بما في الجليد من تحجر وقصور وغياب تقاليد العمل السياسي. وهذا ما يجعل البعض يتصور السياسة غزوة، سينشر بها أفكاره، أو انقلاباً يقيم به دولة على مزاجه، أو من يريد العودة إلى جمهورية ٢٣ يوليو. الثورة حررت المجال السياسي، بما يعني أنها وضعت كل هذا (الغزوة والانقلاب والعودة) في محك الاختبارات الكبيرة، بمعنى آخر وضعت الجميع في مأزق. تحطمت أوهام وخرافات لم يكن أحد يتوقع تحطيمها في ١٠ شهور فقط. هل كان أحد يتصور أن الفلول أو الجهاز السياسي لنظام مبارك، وطليعته قادة الحزب الوطني، تنحسر فعاليتهم كما بدا في الجولة الأولى من الانتخابات؟ الفلول كانوا فزاعة الانتخابات، رغم أن المتأمل سيرى أن الحزب الوطني ليس حزباً، وفعاليته ترتبط بوجود الرئيس، الذي يدير ماكينة المصالح الكبرى، ومع اختفاء مبارك خفت الفعالية إلى درجات لا تجعل للفلول وجوداً، إلّا في وعي مرعوب من لحظة غدر تنقض فيها الثورة المضادة على الثورة. هذه اللحظة لم تأت، والثورة المضادة فعالة، لكن ليس وحدها، الثورة تتحرك وقوتها فعالة إلى درجات لا يصدقها الثوار أنفسهم. وكما حدث مع الفلول، واجهت الثورة أسطورة العسكر، أمل الأمة في التخلص من مبارك قبل ٢٥ يناير، حين كان المجتمع يعاني عجزاً مزمناً، ولا يتصور أنه يستطيع كسر رقبة الدكتاتور. انتظر الشعب العسكر ليغيروا، واسترقوا السمع طويلاً ليعرفوا ما يدور في الغرف المغلقة، لكن الجنرالات آثروا السلامة أو اتباع دائرة مصالحهم، وانتظروا حتى فعلها الشعب. المجلس العسكري ارتبك إذن، ماذا يفعل مع مجتمع غادر غرف النوم وقرر المشاركة في صناعة المستقبل؟
المجلس تصرف كما يملي عليه العقل السلطوي، سندلل الشعب ونقول فيه كلاماً عظيماً حتى يطمئن ويعود إلى النوم، لكن المجتمع تغير، ولدت فيه قوى ربيع حقيقي، لا تقبل العودة إلّا بعد تحقيق الحلم القصي، قوى لا ترسم خيالها على قدر لا يزعج السلطة، قوى قادرة على تجميع هوامش المجتمع، ضحايا سياسات التسلط، التي طردت من رحمتها قطاعات لا تعد ولا تحصى، وأصبحت الثورة بميدانها الرحب، وطاقتها المتمردة على الاستبداد، فضاءً متسعاً لهؤلاء المهمشين.
الثورة إذن لم تمت، لكنها لا تملك القوى التي تستطيع أن تحسم بها المعركة وتنتصر وتحكم وتغيّر النظام تماماً.
المجلس يملك القوة، لكنه ليس قادراً على الحسم، والإخوان المسلمون سيحصلون على أغلبية مقاعد البرلمان، لكنهم لا يملكون القدرة على الحسم. هذه إذن الدائرة التي تتحرك فيها السياسة في مصر، لا أحد قادر على الحسم، والمستقبل رهن بنمو قوى الثورة في إطار شغلها للفراغ السياسي.
مرهون أيضاً بوعي الإخوان المسلمين أن لا حل في مأزقهم إلا بالمزيد من الانضمام إلى الكتل المدنية، بما في ذلك من تحالف حقيقي، يفتح طاقات الإخوان على قوى وأحزاب يمكنها أن تسهم في عبور نفق المرحلة الانتقالية، وأن تبني قواعد لتداول السلطة. المستقبل رهن بتوقف محاولات المجلس العسكري عن محاولة امتصاص الثورة أو تأميمها أو شيطنتها، لأنها جيمعا آلت إلى الفشل، بعدما أحدثت جروحاً وآلاماً لا تنسى. الثورة إذن لا تزال في الملعب، وهذا يحتاج إلى تغيير في اللعب السياسي، وخاصةً أن الإدارة بالصفقات السرية لعنة من لعنات مبارك.
لم يخترعها مبارك، لكنه عاش عليها، وصنع لها قواعد وأعرافاً. كان يريد أن يظل ممسكاً بقبضته كما فعل أسلافه، لكنه في نفس الوقت لا يستطيع أمام علاقاته بالعالم أن يعود الى نظام الحزب الواحد، فاختار الصفقة ليستمر الحزب الواحد مع كعكة يقسمها على من يرضى عنه من أحزاب.
تعددية تحت السيطرة. قبضة أمنية تطاول كل تفصيلة في الدولة والمجتمع. تضخمت القبضة إلى درجة خنقت الدولة والمجتمع. وفسدت الكعكة، ومعها كل القوى القديمة التي ارتضت بانتظار نصيبها. ولم يعبر من هذه القوى القديمة سوى الإخوان المسلمين. كل الأحزاب القديمة انتهت تقريباً صلاحيتها، لأنها فقدت بالصفقات جهاز المناعة.
التنظيم القوي سر نجاة الإخوان. لم تكن الصفقات مع النظام هدفهم الوحيد، لكنها أيضاً كانت فترات بناء التنظيم، وهذا ما جعل مكتب الإرشاد دائماً في قبضة «النواة القديمة» من القطبيين (نسبة إلى سيد قطب) يحافظون على قوة التنظيم قبل كل هدف آخر. وهكذا تكوّن جسم كبير للجماعة، لكنه بلا أذرع، وعقله مشغول بالبقاء لا أكثر. وهذا هو مأزق الإخوان. الجسم الكبير موجود إذن ويحقق نجاحات في لعبته المفضلة: الانتخابات… لكنه ماذا سيفعل؟ كيف سيدير ماكينة الدولة أو يعبر بها نفق المرحلة الانتقالية؟
العقلاء في التنظيم يدركون المأزق ويسيرون باتجاه التقارب مع التيارات المدنية... لكن العقلاء ليسوا وحدهم، هناك جمهور كبير يريد الاستمتاع بالفوز الكاسح، ويتعاملون بروح الحزب الوطني: نحن الدولة ومعنا شرعية الصناديق.
يعرف الإخوان قبل غيرهم أن ما وعدوا به جمهورهم لن يتحقق، وأن فكرة الانقلاب على الدولة أو خطفها لمشروعهم السياسي القديم شبه مستحيلة، ويدركون أيضاً أن ما تكسب به الانتخابات ليس بالضرورة ما تنفذه على الأرض. يدركون أيضاً أن التنظيم سر النجاح (في حسم المقاعد حتى ضد منافسيهم السلفيين) والفكرة (انقلاب الدولة الدينية) سر الرعب من وصول الإخوان إلى أغلبية البرلمان.
كيف سيحل الإخوان مأزقهم؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة، بداية من تحالفات الرئاسة، إلى أي طرف سينحاز الإخوان؟ هل يتصرفون بمنطق الجماعة القديم فيحشدون ضد عبد المنعم أبو الفتوح (المنشق عن الجماعة) مثلاً ويراهنون على مرشح مثل عمرو موسى (يراه الكثيرون مرشح استمرار النظام القديم)؟ أم ينتصر منطق الحزب صاحب الأغلبية ويبحث عن طرق جديدة للخروج من المأزق مثل دعم تحالف (البرادعي ـــــ أبو الفتوح) يراه الكثيرون حلاً مثالياً للأزمة الراهنة؟ هذا مثال واحد على مأزق الجماعة في لحظة يعاد فيها بناء الدولة، وتبدو فرصة أصحاب الغزوات، في إقامة دولتهم (الدينية)، أو المعركة الأهم لأصحاب الجمهورية القديمة في استعادتها بأقنعة جديدة.