الخرطوم | بعد اجتماع استمر أكثر من ساعتين في العاصمة البريطانية لندن، خرجت حركة «العدل والمساواة» لتؤكد مقتل قائدها العام خليل ابراهيم في دارفور، مقدمةً رواية مناقضة لتلك التي تحدثت عنها القوات السودانية، بعدما كانت أول من بادر إلى إعلان موت خليل ابراهيم في ولاية شمال كردفان، وهو الحدث المتوقع أن يترك تداعياته على الإقليم نتيجة الدور المركزي الذي كان يؤدّيه ابراهيم، بوصفه قائداً لأقوى الحركات المتمردة في دارفور.
وأكد الشقيق الأكبر لخليل إبراهيم، جبريل في حديث مع «الأخبار»، خبر وفاة شقيقه، لكنه نفى الرواية الحكومية التي تحدثت عن مقتله إلى جانب ثلاثين عنصراً من المرافقين له، بعد «تعرضه لإصابة قاتلة» في معارك ضارية دارت في منطقة أم قوزين بولاية شمال كردفان على الحدود بين ولايتي شمال دارفور وشمال كردفان، واصفاً هذه الرواية بـ «المفبركة»، لأن ابراهيم قتل «إثر قصف جوي ليلي استهدف معسكر الحركة يوم الجمعة الماضي» على حد تعبير شقيقه.
وفيما وصف البيان الصادر عن «العدل والمساواة»، القصف الجوي الذي أودى بحياة زعيمها بـ «الدقيق»، فإنّ قادة الحركة يرجحون أن يكون استهداف خليل ومن معه قد جرى بمعاونة جهات أجنبية واقليمية، ببساطة لأنه من المعروف عن العمليات الجوية السودانية عدم دقتها. وأوضح جبريل ابراهيم أن رئيس الحركة كان يتحرك ضمن عدة مواكب ولم يكن في مركز القيادة، بل مع القوات، مشيراً إلى أن القصف الجوي استهدف بصورة أخص الموكب الذي كان يضمه هو شخصياً، في إشارة إلى دقة الغارة.
وسواء صحّت رواية الحكومة أو تلك الخاصة بحركة «العدل والمساواة»، فإن الحركة فقدت قائداً فذاً لطالما ظل محافظاً على كيان الحركة رغم التشرذم والانشقاقات العديدة التي أصابتها. ويرى متابعون أن كاريزما خليل ابراهيم هي مصدر القوة الأساسي في «العدل والمساواة»؛ فالرجل يجمع بين الدهاء السياسي والحنكة العسكرية التي اكتسبها في ميادين القتال منذ كان شاباً يافعاً. فابراهيم انتمى إلى الحركة الاسلامية منذ أن كان في المرحلة الثانوية الدراسية، ثم أصبح أحد قادتها في دارفور. وبرز بين عامي 1989 و1999 كقائد في «قوات الدفاع الشعبي» التي أنشأتها «ثورة الإنقاذ»، وهي ميليشيا شعبية حاربت في الجنوب، ولُقب حينها بـ «أمير المجاهدين في الجنوب». ورغم تشكيك أنصار ابراهيم في تلك المعلومة «المفبركة من قبل الاستخبارات السودانية لطمس صورة خليل أمام المجتمع الدولي، ولقطع الطريق أمام أي تعاون مع الحركة الشعبية في المستقبل»، على حد تعبيرهم، إلا أن للرجل مشاركة أكيدة في العمل السياسي مع نظام «الإنقاذ»، حيث بدأ خليل إبراهيم نشاطه السياسي مع حكومة عمر البشير في أوائل التسعينات، بعد عودته من السعودية إلى السودان. ونتيجة فترة عمله في مهنة الطب، عُيّن وزيراً للصحة في حكومة ولاية دارفور الكبرى، قبل تقسيمها إلى ثلاث ولايات، ثم وزيراً للتعليم، ونقل إلى ولاية النيل الأزرق، جنوب شرق السودان، مستشاراً في حكومة ولايتها. بعدها نُقل للعمل مع حكومة تنسيق الولايات الجنوبية، لكن سرعان ما انقلب على السلطة الحاكمة في الخرطوم، لأن «الحركة الإسلامية هربت من مسؤولياتها تجاه المواطن البسيط بعد وصولها إلى السلطة، ولذلك فقدت الشرعية»، وفق رأيه. وعندما انقسم الإسلاميون بين مؤيد للبشير وللزعيم الحالي للمؤتمر الشعبي العام، حسن الترابي، كان خليل ابراهيم أحد ثمانية أشخاص من أبناء الحركة الإسلامية الذين انحازوا للترابي. وبحكم العلاقة الوثيقة التي جمعت ابراهيم بالترابي طوال السنوات الماضية، فإن حركة «العدل والمساواة» التي أصدرت بيانها التأسيسي عام 2001، ثم بدأت نشاطها العسكري في شباط 2003، صُنِّفت بالنسبة إلى نظام الخرطوم على أنها الذراع العسكرية لحزب المؤتمر الشعبي، فيما كان خليل يعوّل على الترابي لكي يكون منبراً في الخرطوم لمطالب الدارفوريين.
وتمسك خليل بالمنهج الإسلامي مرشداً لحركته الناشئة، أما الشعار الأساسي الذي على ضوئه رفعت حركته السلاح، فكان التهميش، حيث تتهم «العدل والمساواة» حكومة الخرطوم بالانحياز إلى القبائل العربية في دارفور، وإهمال تنمية الإقليم، فضلاً عن اتهامها برعاية وتسليح ميليشيات «الجنجويد» العربية، التي تقوم بأعمال نهب مسلح في دارفور، بحسب أدبيات الحركة. ومن أقوال خليل التي تلخّص مطالب حركته: «حركتنا ليست انفصالية، ونطالب فقط بتوزيع عادل للسلطات والثروات، وليست لدينا مشكلة دين، فنحن مسلمون، وليست لدينا مشكلة هوية، ولا قضية عنصرية، قضيتنا هي قسمة السلطة والثروة بعدالة ومساواة».
مطالب لم تستطع الحكومة السودانية أن تلبيها على طاولة التفاوض مع الحركات الدارفورية، فظلت «العدل والمساواة» تعارض جميع الاتفاقيات التي وقعت مع الحركات المتمرِّدة، ومن بينها اتفاق أبوجا عام 2006، ووثيقة الدوحة.
تطوُّرات تزامنت مع تبدلات في المشهد الإقليمي للسودان، أسهمت في تقييد الحركة وزعيمها. فمنذ عام 2009، شهدت العلاقات بين التشاد، التي كانت تؤوي خليل ابراهيم من جهة، والحكومة السودانية من جهة أخرى، تطوراً ملحوظاً انتهى بإعادة تطبيع العلاقات بين البلدين العام الماضي، ليجد خليل ابراهيم نفسه من دون مأوى أو حتى دعم عسكري، فاضطر إلى قبول دعوة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي للمكوث في ليبيا قبل أن تجبره الانتفاضة الليبية على العودة إلى دارفور، محتمياً بقبيلة «الزغاوة»، التي مثلت الرافد الأول لحركته، والتي كانت كذلك في نظر بعض المراقبين سبباً في إعاقة الحركة عن الوصول إلى أهدافها؛ فكثيراً ما شعر غير المنتمين إلى قبيلة الزغاوة بالغبن تجاه قيادة الحركة، بعدما حصرت المناصب العليا في بطن واحد من بطون قبيلة الزغاوة، أي «زغاوة كوبي»، وهي التي تتحدر منها عائلة خليل، الأمر الذي تسبّب على مر السنوات في خروج قادة مؤثرين من الحركة، ما جعل من مهمة التكهُّن بمن سيخلف خليل بعد موته عصية على التوقعات، رغم أن المؤشرات تتّجه حالياً إلى شقيقة جبريل ابراهيم، الذي يتولى منصب الأمين العام للعلاقات الخارجية في الحركة، التي أكدت أنها ستسارع إلى إعادة تنظيم صفوفها على الصعيدين السياسي والعسكري. وفي السياق، كشف جبريل عن بقاء القيادة العسكرية في يد القائد العام لقوات الحركة بخيت كريمة، الملقَّب بـ «دبجو». أما في ما يخص القيادة السياسية للحركة، فيلفت إلى أن المشاورات جارية لتسمية رئيس جديد للحركة، وهو ما «لن يستغرق وقتاً طويلاً» على حد تعبيره.
وتداعيات مقتل خليل ابراهيم لا تقتصر فقط على حركته، التي تُعَدّ أقوى حركة تمرد في دارفور، بل تمتد أيضاً لتشمل مصير العملية السلمية في اقليم دارفور، حيث يرجح محللون أن مقتل خليل ابراهيم سيؤدي إلى ازاحة المعارضين للعملية السلمية من واجهة الأحداث، ويصعد بالمؤيدين للسلام إلى الواجهة، وسط ترجيحات حكومية باحتمال عودة حركة «العدل والمساواة» الى التفاوض كاستنتاج بديهي ومحتمل.
لكنّ المتابعين لسلوك الحركة يدركون أنها لن تعود إلى التفاوض من موقف ضعيف، وهو ما أكده جبريل بإشارته إلى أنه «لن يكون هناك تفاوض بعد طريق القتل الذي سلكته الحكومة»، ليبقى خيار التصعيد العسكري قائماً، ولا سيما بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها خريطة التحالفات العسكرية في السودان، وتحديداً بإعلان تحالف «الجبهة الثورية» المؤلفة من عدد من الحركات المتمردة، أبرزها، إلى جانب «العدل والمساواة»، «الحركة الشعبية لتحرير السودان ــ قطاع الشمال»، و«حركة تحرير السودان» بقيادة القائد مني اركو مناوي، وتحديد هدفها بالعمل على إسقاط نظام البشير.
في المقابل، أكد جبريل التزام حركته بما جاء في ميثاق كاودا (إسقاط النظام في الخرطوم)، طالما كان الآخرون ملتزمين بالعهد. أما بالنسبة إلى مصير قيادة «الجبهة الثورية»، الذي كان موضع نقاش مستمر بين الحركات التمردة، فإن وفاة خليل، الذي كان المرشح الأبرز لتولي قيادتها، ستسمح بارتفاع أسهم قادة أخرين. وعن هذا الموضوع، لفت القيادي في «حركة تحرير السودان ــ جناح السلام ذو النون سليمان»، لـ «الأخبار»، إلى أن مقتل خليل سيزيد من حدة النزاع على قيادة «كاودا»، وخاصة من قبل مناوي، المرجَّح أن يتحول إلى الطرف الأبرز في دارفور، ولا سيما أن معظم قادة «العدل والمساواة» كانوا في السابق تابعين له.



دعوة إلى الانخراط في العمليّة السلميّة


في أعقاب إعلان مقتل زعيم حركة العدل والمساواة، خليل ابراهيم، وجهت الحكومة السودانية دعوة إلى مسلحي اقليم دارفور للانضمام إلى عملية السلام. ورأت وزارة الإعلام السودانية، في بيان لها، أن مقتل ابراهيم «كان نتيجة حتمية للطريق الذي اختاره زعيم الحركة المتمردة». وناشدت الحكومة في البيان «حاملي السلاح من أبناء دارفور تغليب صوت العقل والحكمة، وإعلاء مصلحة مواطني دارفور، والانخراط في العملية السلمية، والمشاركة في إعمار دارفور، والمساهمة في نهضة السودان». من جهة ثانية، اقتحمت قوات من الشرطة مكان العزاء الذي أقامته أسرة خليل في إحدى ضواحي الخرطوم، وفرّقت المعزين، مستخدمةً الغاز المسيل للدموع، وفقاً لما أكده نجل ابراهيم، محمد.