مع مرور ثلاث سنوات على إبرام اتفاقية التطبيع بين البحرين والكيان الصهيوني، افتُتحت، بداية الشهر الجاري، السفارة الإسرائيلية في المنامة، في خطوة تأخّر إنجازها لأسباب كثيرة، أغلبها يعود إلى المزاج الشعبي اللافظ للإسرائيليين في المملكة. خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ومنذ اللحظة التي وُلدت فيها «أبراهام»، انكبّ النظام الحاكم في البحرين على إبرام عشرات المعاهدات مع دولة الاحتلال، على رغم أنه إلى ما قبل سنتَين فقط من توقيع الاتفاقية، دأب - أقلّه في العلن - على تصدير المواقف التضامنية مع الشعب الفلسطيني، وآخرها إعلان عن تخصيص جزء من المنهاج الدراسي لمادة التاريخ الحديث، لقضية القدس الشريف باعتباره عاصمة أبدية لدولة فلسطين، وهو ما يثير تساؤلات حول حقيقة هذا الانقلاب المستعجل من ضفّة إلى أخرى، وما إن كانت ثمّة «فوائد» مجنيّة من وراء ذلك الانقلاب.الواقع أنه بعد استفحال الأوضاع الداخلية في البحرين، ووصولها إلى حائط مسدود بين النظام والمواطنين، وغياب أجندة الإصلاح التي تُحاكي هواجس هؤلاء، ذهب الملك بعيداً في خياراته، وفضّل الالتحاق بركب التطبيع علّه بهذه الطريقة يعوّض فقدان الشرعية الشعبية الداخلية، ويستطيع إخضاع أبناء البلد الذي ظلّوا عاصين على الترويض. لكن في حقيقة الأمر، ظلّ الشعب على موقفه الرافض لكلّ ما يَصدر عن هذه السلطة، سواءً في ما يتّصل بتحالفاتها الخارجية، أو سياساتها الداخلية وتداعياتها من ضرائب وغلاء وعزل ومنع وحظر ورفع للديْن العام إلى حدود قياسية، وعجز فاقع لا يماثل واقع أيّ دولة نفطية في العالم. وهكذا، جاءت نِسب المقاطعة للانتخابات النيابية والبلدية لعام 2022 (الفصل التشريعي السادس)، لتثبت أن لا بيعة شعبية لنظام آل خليفة.
على أن هذا الرفض توسّعت دائرته ليشمل حتى التيارات التي كانت محسوبة على النظام من خارج نادي المعارضة. إذ بعد تفجّر الأزمة السياسية، ثمّ تشريع العلاقات مع الاحتلال عام 2020، تلاشى دعم «الإخوان المسلمين» والسلفيين والعلمانيين الذي اجتمعوا على رفض التطبيع جملةً وتفصيلاً. وفي هذا الإطار، تتكتّل 23 جمعية تحت عباءة «المبادرة الوطنية البحرينية لمناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني»، متّفقةً في ما بينها على مواجهة مشاريع التهويد التي تُهدّد البحرين على مرأى ومسمع من النظام. وعليه، فإذا كان صُوّر للأخير أن «أبراهام» ستفتح له باب التفوّق الأمني على الشعب، ليخرق كلّ بيت بحريني عبر تقنيات العدو المتقدّمة في التجسّس، ويُمسِك برقاب العباد ويُهدّدهم بهذه الورقة، فإن دعم الكيان لم يجلب له إلّا مزيداً من النقمة بين أبناء الديرة الذين استمرّوا على حزمهم، فيما الصراع بينهم وبين السلطة تعمّق بشكل أكبر.
توسّعت دائرة الرفض لتشمل حتى التيارات التي كانت محسوبة على النظام من خارج نادي المعارضة


اقتصادياً، تنتج البحرين 200 ألف برميل يومياً من النفط، وبالتالي من غير المنطقي اعتمادها إلى هذا الحدّ على الديون والقروض والمعونات من الخارج. لكن الدولة لا تُجيب على سؤال التناقض بين ارتفاع الإيرادات النفطية بنسبة 39% (بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي)، وبلوغ الدَين العام حتى عام 2020 فقط حوالي 19 مليار دينار وتزايد فوائد القروض بأكثر من 5%. وإذ يبدو أن الإجابة على ذلك ليست سوى صرف المساعدات في أماكن لا يستفيد منها الاقتصاد الوطني، يضحي مفهوماً إعراض السعودية، وأيضاً الإمارات، عن ضخّ النقد للبحرين، أو ما سمّاه وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، في «مؤتمر دافوس» الأخير، تغيير طريقة تقديم المساعدات من قِبل الحلفاء، والتي كانت متمثّلة في تقديم مِنح مباشرة وودائع من دون شروط، الأمر الذي يمكن إرجاعه إلى التململ من فضائح الفساد المتواترة عن مسؤولي البحرين، والاستيلاء على الأموال العامة والثروات والتصرّف بها على أنها خاصّة، وفق ما يدلّ عليه تعاظم الحسابات المصرفية للملك وأسرته. المفارقة أن كلّ هذا لم يستطع التطبيع محْوه، على الرغم من الاتفاقيات التجارية التي هرولت المنامة لتوقيعها مع تل أبيب. إذ إن التعاون الثنائي الذي انشغل وزير الصناعة والتجارة والسياحة البحريني، زايد بن راشد الزياني، بالحديث عن انعكاساته العظيمة، لم تتعدَّ قيمته الفعلية الـ7.5 ملايين دولار في عام 2021 كتبادلٍ تجاري، وهذا رقم لا يعوّل عليه في عالم التجارة بين البلدان، فأين الرافعة التي مثّلها الإسرائيليون لاقتصاد آل خليفة؟
على الصعيد الحقوقي، لم يجمّل «اتفاق العار» صيت البحرين السيّئ، حيث ظلّت المعركة على أشدّها، فيما المعتقَلون السياسيون الذين يفوقون الألف يُعرّون كلّ ادّعاء إنساني تطلقه السلطة، التي لا تفتأ تتلقّى مناشدات تحثّها على إطلاق سراح السجناء، وتوفير ظروف صحّية ملائمة لهم، وخصوصاً في ظلّ إضراب نحو 800 معتقل رأي في «سجن جَو». وكانت الزيارة الاستثنائية لبابا الفاتيكان فرنسيس إلى البحرين شكّلت علامة فارقة في هذا الإطار، كون الحبر الأعظم لم يهتمّ بتطبيع السلطة مع الصهاينة، بقدر ما ركّز على مُطالبته إيّاها باحترام حقوق الإنسان والحرية الدينية، ودعوتها إلى «ضمان عدم انتهاك حقوق الإنسان الأساسية والعمل على تعزيزها».
ماذا جنى، إذاً، الملك من كلّ هذا؟ غرق في أزماته أكثر، ولم يسلم من اللوْم المُوجَّه إليه على المستويات كافة. وبالنتيجة، الشعب عينه على قوتِه وحريته، والحاكم مُنغمسٌ في «حبّ إسرائيل».