تمثّل الكويت مختبراً مصغراً لديموقراطية عربية يرى بعض من هم خارجها أنها تقف عائقاً أمام التنمية على الطريقة الخليجية، التي شهدناها في الإمارات وقطر ونشهدها حالياً في السعودية، لكن الكلمة التي قالها الكويتيون في الصناديق هي أن الديموقراطية أفضل من غابة الإسمنت الخليجية. وفي كل الأحوال، يقول الكويتيون، نيابة عن كل الخليجيين، إنهم ليسوا معنيين بقشور من نوع توفير أرقام قياسية لأعلى مبنى وأعرض شارع، لإشباع شهوة شخص يرغب في تأبيد تسلّطه على رقاب مواطنيه وزجّهم في خيارات خطرة من نوع التطبيع مع إسرائيل، والذي تظل الكويت وحدها بين دول الخليج، بعيدة عنه بفضل ديموقراطيتها النسبية.هذه الحقيقة أفرزتها مرة أخرى انتخابات مجلس الأمة التي أُجريت الخميس الماضي، حين أعاد الكويتيون إنتاج مجلس مماثل لذلك المنحلّ الذي انتُخب العام الماضي، مع تغييرات محدودة شملت نحو 22 في المئة من النواب، من دون تغيير أساسي في ميزان القوى، بمعنى أن النواب الجدد ليسوا مختلفين عن من حلّوا مكانهم. وتعني نتيجة الانتخابات أن مسألة تعطيل «التنمية» من خلال الصراع على الثروة باقية، وأن العلاقة المتأزّمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من خلال الاستجوابات التي سيجريها النواب للوزراء أو رئيس الحكومة، أيضاً مستمرة، ولا سيما مع تردد أنباء، أمس، عن اعتذار رئيس حكومة تصريف الأعمال، محمد سالم الصباح، عن تشكيل الحكومة الجديدة، في مؤشر إلى تأزيم مبكر. وهو كان قد اشترط سابقاً لتشكيل الحكومة، تغيير قواعد الحكم القائمة على الترضيات والمحاصصة. والجدير ذكره، هنا، أن الاستجوابات التي تثير أزمة، غالباً ما تنتهي بنوع من الترضيات أو باستقالة الحكومة أو بحل مجلس الأمة.
قراءة بسيطة لأرقام التصويت، تعطي ملمحاً عن المرحلة المقبلة التي قد تخبئ حلاً آخر للمجلس الجديد في إطار الصراع السياسي بين القيادة السياسية والمعارضة. فالقبائل عزّزت حضورها لا فقط عبر العودة بالأعداد نفسها التي تصل إلى نصف المجلس المؤلف من 50 عضواً منتخباً، وإنما أيضاً من حيث نسب التصويت؛ إذ إن الأول في الدائرة الخامسة التي تسيطر عليها القبائل مثلاً، فهد فلاح بن جامع، وهو نجل أمير قبيلة العوازم، حصل على نحو 16500 صوت بزيادة نحو 10000 صوت عن انتخابات مجلس الأمة العام الماضي، وهو ما يعني أن القبائل كانت متحفّزة أكثر للتصويت، من أجل إيصال ممثليها إلى المجلس والحصول على صوت في توزيع الثروة. ولعل هذه القوة باتت تغري القبائل بالعمل لتوسيع نفوذها، حيث يتردّد أن بن جامع ينوي المنافسة على منصب رئيس مجلس الأمة. والقبائل نفسها تدخل أيضاً بوجوه سياسية تسعى إلى التأثير في القرار السياسي، ولا سيما عبر الإسلاميين.
تراجع كبير لـ«الإخوان» مع احتفاظ الإسلاميين بنصف مقاعد المجلس


ورغم أن النتائج أفضت إلى تراجع كبير للحركة الدستورية الإسلامية (حدس) التي تمثّل «الإخوان المسلمين»، بخسارتها ثلاثة نواب يمثلونها بشكل رسمي أو غير رسمي، واحتفاظها بنائب بواحد فقط، هو عبد العزيز الصقعبي، إلا أن هذا لا يعني تراجع عدد النواب الإسلاميين من السلف والمستقلين الذي يحتلون نحو نصف المجلس أيضاً. وقد يكون تراجع «حدس» جاء عقاباً لجماعة «الإخوان المسلمين» بالنسخة التركية، والتي هُزمت في الانتخابات البلدية الأحدث في تركيا، ولا سيما أن «إخوان الكويت» متأثرون بالأخيرة التي آووا إليها في ذروة الصدام مع القيادة السياسية خلال «الربيع العربي».
وبالعودة إلى تقدّم النزعة القبلية، فهي قد تكون إحدى مثالب الديموقراطية، ولكنها مع ذلك تظل أفضل من اللاديموقراطية. والقبلية والطائفية ليستا ضريبة تدفعها الكويت وحدها للحريات السياسية، وإنما هي حالة عربية عامة. إلا أن ذلك يجدر ألا يولّد انطباعاً بأنه لا جدوى من الديموقراطية، حتى إن كان من الواجب مكافحة القبلية. وهذا يحصل نسبياً في الكويت عبر تجريم الانتخابات الفرعية التي تجريها القبائل سراً قبل كل انتخابات لمجلس الأمة.
من جهة أخرى، فإن نتائج الانتخابات تضع الأمير مشعل الأحمد الصباح، أمام التحدّيات نفسها التي واجهها أسلافه، وهو ليس غريباً عنها، إذ كان جزءاً من القيادة السياسية قبل أن يصبح ولياً للعهد مفوضاً بالكثير من صلاحيات الأمير، بعد وفاة صباح الأحمد في أيلول 2020، نظراً إلى مرض نواف الأحمد الذي توفي في كانون الأول الماضي. وتولّى مشعل مقاليد الحكم على وعد بإزالة العوائق أمام التنمية، ليتسنى للكويت اللحاق بركب الدول الخليجية الأخرى. ومجلس الأمة الكويتي لا يُعتبر عائقاً أمام التنمية وفقاً لهذا النمط فقط، وإنما يثير حساسية لدى حكام الدول الخليجية الأخرى، التي تعرض تنميتها كنموذج ناجح يتعيّن على الكويت اتباعه، في ظل خوفها من أن يغري الحراك السياسي الكويتي مواطنيها للمطالبة بحرّيات سياسية مشابهة. ولذا، فإن ثمة احتمالاً بأن يتم حلّ المجلس الجديد، حلاً «غير دستوري»، بمعنى أن يترافق مع تعليق العمل ببعض بنود الدستور لوقف عمل المجلس، وهو خيار تدفع إلى التكهّن به الشخصية القوية للأمير مشعل.
على أي حال، الاختبارات للعلاقة بين السلطتين ستبدأ سريعاً عبر استحقاقات فورية، بينها انتخاب رئيس المجلس نفسه الذي يجري في الجلسة الأولى. وما دام رئيسا المجلس السابق، أحمد السعدون، والأسبق، مرزوق الغانم، قد عادا نائبين، فإن المنافسة واقعياً ستكون بينهما، مع أرجحية للأول الذي يحظى باحترام كبير لدى المعارضة، والذي مثّل وصوله إلى رئاسة المجلس السابق نوعاً من تسوية مع القيادة السياسية، على إثر العفو الأميري الذي أتاح عودة المعارضين الفارين إلى تركيا. وبعد ذلك، ستخضع تلك العلاقة لاختبار أقسى مع تشكيل الحكومة الجديدة، ولا سيما أن نواباً يلوّحون منذ الآن باستجواب وزير الدفاع وزير الداخلية بالوكالة، فهد اليوسف الصباح، إذا عاد وزيراً. على أن الاختبار الرئيس هو المتعلّق بمستقبل الحكم، والذي يمثّل محطته الرئيسة اختيار ولي العهد الجديد، الذي درجت العادة أن يسميه الأمير بعد تسلّمه منصبه بمدة قصيرة، والآن مرت نحو خمسة أشهر ولا زال المنصب شاغراً، علماً أنه يتعين على الأمير تسمية ولي للعهد قبل انقضاء سنة على توليه منصبه.
كان مردّ السرعة في التعيين سابقاً هو وضوح الخيار، الأمر غير المتوافر حالياً، إذ إن المنطق التسلسلي يسوّغ اختيار رئيس الوزراء الأسبق، ناصر المحمد الصباح، للمنصب، لكن الأخير خاض صراعاً طويلاً مع المعارضة انتهى بخروجه من رئاسة الحكومة، وبالتالي فإن تعيينه قد يُعيد إنتاج الأزمات ذاتها. كما ثمة خيار مطروح هو تعيين نجل الأمير، أحمد، ولياً للعهد، الأمر الذي قد يثير تحفظّات داخل أسرة الحكم نفسها. ورغم أن مجلس الأمة منوط به مبايعة ولي العهد الجديد بالغالبية البسيطة، بعد تعيينه بمرسوم أميري، إلا أنه يصعب تصوّر مخالفة المجلس لرغبة الأمير، باعتبار أن ذلك يمكن أن يأخذ الصراع إلى مكان آخر، فضلاً عن أن تركيبة مجالس الأمة التي، وإن سيطرت عليها المعارضة، فإنها لا تكون كتلة واحدة، تفتح المجال لتثبيت من يسميه الأمير.