خصّ المفكّر الأميركي اليساري الأبرز نعوم تشومسكي، «الأخبار»، بمقال لتفنيد أحد أهم الملفات ــ التحديات التي تواجه إدارة الرئيس باراك أوباما: مذكرات التعذيب التي شرّعها الثلاثي بوش ــ تشيتي ــ رامسفيلد. تعذيب ارتبط بسياسات واشنطن وأذيالها منذ القدم، ويبدو أن أوباما غير مستعدّ إزاءه إلا لمجرّد إجراءات تجميليّة


نعوم تشومسكي
لقد أثارت مذكرات التعذيب التي نشرها البيت الأبيض صدمة واستنكاراً وتفاجؤاً. يمكن تفهم الصدمة والاستنكار، المتأتّيين خصوصاً من الشهادة الواردة في تقرير لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي عن سعي تشيتي ــــ رامسفيلد اليائس لإيجاد روابط بين العراق و«القاعدة». روابط دُبّرت لاحقاً لتبرير الاجتياح ولا تمتّ إلى الواقع بصلة. وقد أدلى الطبيب النفسي الأسبق للجيش، الرائد تشارلز بورني، بشهادة قال فيها: «كنا نركز في معظم الأوقات على محاولة إقامة صلة بين القاعدة والعراق. وكلما كبر شعور المسؤولين بالإحباط لعجزهم عن إقامة ذلك الرابط، ازدادت الضغوط للّجوء إلى إجراءات من شأنها أن تولّد المزيد من النتائج الآنية»؛ إنها التعذيب. ونقلت صحيفة «ماكلاتشي» أن مسؤولاً كبيراً سابقاً في الاستخبارات، مطّلعاً على قضية الاستجوابات أضاف أن «إدارة بوش مارست ضغوطاً كبيرة على المستجوبين لكي يستخدموا أساليب عنيفة مع الموقوفين، جزئياً للعثور على دليل يثبت التعاون بين القاعدة ونظام الدكتاتور العراقي الراحل صدام حسين... طلب تشيني ورامسفيلد أن يجد المستجوبون دليلاً على تعاون ما بين القاعدة والعراق... «كان هناك ضغط مستمر يُمارَس على وكالات الاستخبارات والمستجوبين للقيام بكل ما يلزم من أجل استخراج المعلومات من الموقوفين، لا سيما الموقوفين القلائل في قبضتنا الذين يُعتبَرون مهمين جداً، وعندما لا يحصل المستجوبون على معلومات، كانت جماعات تشيني ورامسفيلد تطلب منهم ممارسة ضغوط أكبر».
كانت هذه الاعترافات هي التي تحمل أكبر الدلالات، ومع ذلك كادت ألا تُنقل.
فيما يجب حتماً أن تثير مثل هذه الشهادة عن فساد الإدارة وخداعها الصدمة، يبقى التفاجؤ لدى تكشّف الصورة العامة موضع مفاجأة. والسبب الذي ينحصر بهذه القضية هو أنه، حتى من دون إجراء تحقيق، كان من المنطقي الافتراض أن غوانتنامو هو مقر للتعذيب، وإلا فلمَ يُرسَل السجناء إلى مكان يكونون فيه بعيدين عن متناول القانون؟ وصودف أنه مكان تستخدمه واشنطن بما ينتهك اتفاقية فُرضت على كوبا والمسدس مصوّب إلى رأسها. يجري التحجج بأسباب أمنية، ولكن يصعب حملها على محمل الجد.
أما السبب الأوسع فهو أن التعذيب مثّل ممارسة روتينية منذ أوائل أيام الاستيلاء على الأراضي الوطنية، ثم ما بعدها، حين امتدت المغامرات الامبريالية التي قامت بها «الامبراطورية اليافعة» ــــ كما أسمى جورج واشنطن الجمهورية الجديدة ــــ إلى الفليبين وهايتي وأمكنة أخرى. زِد إلى ذلك أن التعذيب كان أدنى الجرائم الكثيرة التي تمثلت بعمليات عدوان وإرهاب وتدمير وخنق اقتصادي لطّخت التاريخ الأميركي، كما هي الحال في دول عظمى أخرى. وتبعاً لذلك، يندهش المرء لرؤية ردود الفعل التي قام بها بعض أبلغ المنتقدين الذين يوجهون انتقادات مباشرة إلى سوء تصرف بوش: كالقول مثلاً إننا اعتدنا أن نكون «أمة تتمتع بمثل أخلاقية» وأبداً قبل بوش «لم يقدِم قادتنا على خيانة كل ما تمثله أمتنا هذه الخيانة الكاملة» (بول كروغمان). فأقل ما يقال في هذا الكلام إن وجهة النظر الشائعة هذه تعكس رواية محرّفة للتاريخ.
بين الفينة والأخرى، جرى تناول التضارب بين «ما نمثله» و«ما نفعله». ومن العلماء البارزين الذين قاموا بهذه المهمة هانس مورغانتو، وهو أحد مؤسسي النظرية الواقعية في العلاقات الدولية. ففي دراسة كلاسيكية كتبها مورغانتو في المرحلة التي ساد فيها الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تمثل دور المدينة الفاضلة، بلوَرَ وجهة النظر القائلة إن الولايات المتحدة تمتلك «هدفاً فائقاً»: إقامة السلام والحرية في البلاد وفي كل مكان طبعاً، بما أن «الحلبة التي يجب على الولايات المتحدة ضمنها أن تدافع عن هدفها وتروّج له، قد أصبحت باتساع العالم». ولكن كعالِم دقيق، اعترف بأن السجل التاريخي غير متساوق في العمق مع «الهدف الفائق» لأميركا.
بيد أن هذا التناقض ينبغي ألا يضللنا، كما ينصح مورغانتو: وبحسب تعابيره، يجب ألا «نخلط بين استغلال الواقع والواقع نفسه». فالواقع هو «الهدف الوطني» غير المحقق الذي يكشفه «دليل التاريخ كما يعكسه عقلنا». فما حصل فعلياً ليس إلا «استغلالاً للواقع». والخلط بين استغلال الواقع والواقع نفسه يماثل «خطأ الإلحاد الذي ينكر صحة الدين على أسس مشابهة». تشبيه ملائم.
قاد نشرُ مذكرات التعذيب آخرين إلى الاعتراف بالمشكلة. ففي صحيفة «نيويورك تايمز»، استعرض صاحب إحدى الزاويا، وهو روجر كوهن، كتاباً للصحافي البريطاني جيفري هودغسون الذي يخلص إلى القول إن الولايات المتحدة هي مجرد «دولة عظيمة ولكن غير كاملة بين الدول الأخرى». ويوافق كوهن على أن الدليل يدعم رأي هودغسون، ولكنه يعتبره مخطئاً في الأساس، ويعود السبب إلى عجز هودغسون عن إدراك أن «أميركا ولدت كفكرة، ولذلك عليها أن تنقل هذه الفكرة». وتجلت فكرة أميركا من خلال ولادة أميركا كـ«مدينة على جبل»، وهي «فكرة مستلهَمة» تقبع في «عمق النفس الأميركية»، ومن خلال «الروح المميزة للفردانية والإقدام الأميركيين» التي أُثبتت في التوسع الغربي. يكمن خطأ هودغسون في أنه بقي عند «تشوّهات فكرة أميركا في العقود الحديثة»، «استغلال الواقع» في السنوات الأخيرة.
فدعونا نلتفت إلى «الواقع نفسه»: «فكرة» أميركا منذ أيامها الأولى.
إن التعبير المستلهَم «مدينة على جبل» ابتكره جون وينثروب عام 1630، وقد اقتبسه من الإنجيل، وهو يشير إلى المستقبل المجيد لأمة «قضى بها الله». قبل ذلك بسنة واحدة، أنشأت مستعمرته، مستعمرة خليج ماستشوستس، ختمها العظيم الذي يصوِّر هندياً يخرج من فمه كلمات «تعالوا إلينا وساعدونا». وبالتالي كان المستعمرون البريطانيون متطوعين للعمل الإنساني، يلبّون مناشدات أهل البلاد البائسين لكي ينقذوهم من قدرهم الوثني المرير.
الختم العظيم هو تجسيد منقوش لـ«فكرة أميركا» منذ ولادتها. فيجب نبشها من أعماق النفس وعرضها على جدران كل صف من صفوف المدارس. ينبغي حتماً أن تظهر في خلفية كل تأليه، على نمط تأليه كيم إيل سونغ، للقاتل الوحشي والمعذِّب رونالد ريغان الذي وصف نفسه مغتبطاً بأنه قائد «مدينة مشعّة على جبل» فيما كان يهندس بعض أشنع الجرائم التي ارتكبها في السنوات التي أمضاها في منصبه، مخلفاً وراءه إرثاً بشعاً.
لقد تبّين أن هذا الإعلان المبكر عن «التدخل الإنساني»، إذا أُريد استخدام التعبير المطابق لأسلوب الكلام الرائج اليوم، يشبه إلى حد بعيد الإعلانات التي خلّفته، وهي أمور لم يكن الفاعلون يجهلونها. فوزير الحرب الأول، الجنرال هنري نوكس، وصف «الاقتلاع الكامل لكل الهنود في أشدّ بقاع الاتحاد اكتظاظاً بالسكان» عبر وسائل «مدّمرة على أهل البلد الهنود أكثر مما كان سلوك محتلّي المكسيك والبيرو».
وبعد مضي وقت طويل على مساهمات جون كوينسي أدامز نفسه في هذه العمليات، تأسّف بشدة على قدر «ذلك العرق العاثر الحظ من سكان أميركا الأصليين، إذ كنا نبيدهم بأسلوب جائر وبوحشية غدارة... بين أبشع خطايا هذه الأمة، وبسببها أعتقد أن الله سيحاكمها يوماً ما». واستمر الجور والوحشية الغدارة إلى أن «تم اجتياح الغرب». بدل حكم الله، لا تجلب الخطايا البشعة إلا الثناء على تحقيق «فكرة» أميركا.
حتماً، ظهرت رواية أكثر ملاءمة وابتذالاً عبّر عنها، على سبيل المثال، رئيس المحكمة العليا، القانوني جوزيف ستوري الذي قال متفكّراً إن «حكمة العناية الإلهية» هي التي سبّبت اختفاء سكان البلاد الأصليين «مثل أوراق الخريف الذاوية» على الرغم من أن المستعمرين «احترموهم دوماً».
لقد أظهر اجتياح الغرب والاستيطان فيه فردانية وإقداماً طبعاً. فهذا ما تظهره عادة المشاريع الاستيطانية ــــ الاستعمارية، وهي أقسى أشكال الامبريالية. وقد أثنى على ثمار هذه الأعمال السيناتور المحترم الواسع النفوذ هنري كابوت لودج عام 1898. فهو، إذ دعا إلى التدخل في كوبا، عظّم سجلنا الحافل بـ«الاجتياح والاستعمار والتوسّع الجغرافي الذي لم يضاهِه سجل أي شعب في القرن التاسع عشر»، وحث على «ألا يُكبح الآن»، فيما الكوبيون أيضاً يناشدوننا المجيء إليهم ومساعدتهم. لُبّيت مناشدتهم، وأرسلت الولايات المتحدة جنودها. وهكذا، أعاقت تحرير كوبا من إسبانيا وحوّلتها عملياً إلى مستعمرة، وبقيت على هذه الحال حتى عام 1959.
تتجسد «فكرة أميركا» بشكل إضافي من خلال الحملة اللافتة التي أُطلقت فوراً من أجل إعادة كوبا إلى مكانها الملائم: حرب اقتصادية لها هدف عُبِّر عنه بوضوح وقضى بمعاقبة الشعب لكي يقلب الحكومة غير المطيعة؛ واجتياح؛ وتفاني الإخوة كينيدي في إحلال «الأهوال على أرض» كوبا (جملة المؤرخ أرثور شليزينغر في كتاب تناول فيه سيرة روبرت كينيدي الذي اعتبر المهمة واحدة من أهم أولوياته)؛ وغيرها من الجرائم المستمرة حتى الزمن الحالي بما يمثّل تحدياً لشبه إجماع عالمي.
لا شك في أن ثمة نقاداً يعتبرون أن جهودنا القاضية بتحقيق الديموقراطية في كوبا قد فشلت، لذا يجب أن نلجأ إلى أساليب أخرى من أجل «الذهاب إليهم ومساعدتهم». فكيف يعرف هؤلاء النقاد أن الهدف كان تحقيق الديموقراطية؟ ثمة دليل على ذلك: هذا ما يدّعيه قادتنا. ولكنّ ثمة دليلاً على العكس أيضاً: السجل الداخلي الذي رُفع عنه حظر النشر، غير أنه يمكن المرء أن يصرف النظر عنه على اعتبار أنه مجرد «استغلال للتاريخ».
غالباً ما تبدأ عملية تعقّب الامبريالية الأميركية بالعودة إلى الاستيلاء على كوبا وبويرتو ريكو وهاواي عام 1898. ولكن مَن يطبّق ذلك يقع في ما يسميه مؤرخ الامبريالية بيرنار بورتر «مغالطة المياه المالحة»، وهي الفكرة القائلة إن الاجتياح يصبح امبريالية فقط عندما يجتاز المياه المالحة. وبالتالي، لو كان نهر الميسيسيبي يشبه البحر الإيرلندي، لكان التوسع نحو الغرب امبريالية. من واشنطن إلى لودج، أولئك الملتزمون بالمشروع كان إدراكهم أوضحبعد نجاح التدخل الإنساني في كوبا عام 1898، قضت الخطوة التالية في المهمة التي حددتها العناية الإلهية بإغداق «نِعَم الحرية والتمدن على كل الشعوب المنقَذة» في الفليبين (حسب كلمات برنامج حزب لودج الجمهوري)، أقلّه على أولئك الذين نجوا من الاعتداء الفتّاك والتعذيب المُمارَس على نطاق واسع وغيره من أعمال وحشية أخرى رافقته. فقد تُرِكت تلك النفوس المحظوظة تحت رحمة شرطة عسكرية فليبينية أقامتها الولايات المتحدة ضمن إطار نموذج مستحدث من السيطرة الاستعمارية يعتمد على قوات أمنية مدرَّبة ومجهَّزة لكي تحقق أنماطاً مطوّرة من المراقبة والترويع والعنف. واعتُمدت نماذج مشابهة في العديد من الأمكنة الأخرى، حيث فرضت الولايات المتحدة حراساً وطنيين وحشيين وغيرهم من القوات العميلة، مع ما ترتّب على ذلك من نتائج لا بدّ أنها معروفة حق المعرفة.
في غضون السنوات الستين المنصرمة، عانى ضحايا في كل أرجاء العالم من «نموذج التعذيب» الذي وضعته وكالة الاستخبارات الأميركية، وقد طُوِّر بكلفة قاربت المليار دولار سنوياً بحسب المؤرخ ألفريد ماكوي، الذي أثبت أن الأساليب عكست اختلافاً طفيفاً عن تلك المعتمدة في سجن أبو غريبلا غلوّ في أن تُعنوِن جينيفر هاربوري دراستها الثاقبة عن سجل التعذيب الأميركي «الحقيقة والتعذيب والطريقة الأميركية». ومن المضلل للغاية، وهذا أقل ما يُقال، أن يرتكب المحققون في عصابة بوش الأعمال القذرة بالتأسف قائلين إن «أميركا ضلت طريقها في شنها الحرب على الإرهاب».
لقد أدخل بوش ــــ تشيني ــــ رامسفيلد وآخرون تحديثات مهمة فعلياً، فعمليات التعذيب كانت تُلزَّم عادة لأتباع أميركا، ولا ينفذها الأميركيون مباشرة في غرف التعذيب التي تقيمها حكومتهم. ويشير ألان نايرن، الذي أجرى بعض أجرأ التحقيقات عن التعذيب وأكثرها دلالة، إلى أن «ما قام به أوباما (حظر التعذيب) يطال ظاهرياً تلك النسبة المئوية الصغيرة من عمليات التعذيب التي صار يجريها الآن أميركيون، فيما أبقى على الجزء الهائل الذي يتألف من نظام التعذيب ويقوم به أجانب برعاية الولايات المتحدة.
كان باستطاعة أوباما أن يوقف دعم القوات الأجنبية التي تمارس التعذيب، لكنه اختار ألا يفعل». ويلفت نايرن إلى أن أوباما لم يلغِ ممارسة التعذيب، ولكنه «أعاد موضعتها فقط»، أعادها إلى المعيار الطبيعي، وهي مسألة لا يبالي بها الضحايا. منذ حرب فيتنام، «عملت الولايات المتحدة على أن تُنفَّذ عمليات التعذيب التي تريدها بالوكالة عنها، عبر دفع الأموال لأجانب وتسليحهم وتدريبهم وتوجيههم من أجل تنفيذها، ولكنها كانت تحرص عادة على بقاء الأميركيين بعيدين، ولو خطوة على أقل تقدير، عن دائرة الضوء حفاظاً على سرية مشاركتهم في العمل». والحظر الذي فرضه أوباما «لا يمنع حتى التعذيب المباشر على يد الأميركيين خارج مناطق «النزاع المسلح»، حيث يجري القسم الأكبر من عمليات التعذيب على أي حال بما أن أنظمة قمعية عديدة ليست ضمن تلك التي تشهد نزاعات مسلحة.
ما فعله هو عودة إلى الوضع الذي كان قائماً في السابق، إلى نظام التعذيب الذي كان سائداً من أيام فورد إلى كلينتون، والذي، سنة وراء سنة، غالباً ما سبب عمليات تعذيب مميتة مُورست بحق ضحايا موثقي الأيدي، عمليات دعمتها الولايات المتحدة ويفوق عددها عدد تلك التي حدثت في خلال سنوات حكم بوش / تشيني».
أحياناً، يجري التدخل في عمليات التعذيب بشكل أقل مباشرة. ففي دراسة أجريت عام 1980، اكتشف المختص بشؤون أميركا اللاتينية، لارز شولتز، أن مساعدات الولايات المتحدة «مالت إلى التدفق على نحوٍ غير متناسق إلى حكومات أميركا اللاتينية التي تمارس التعذيب بحق مواطنيها... إلى نصف الكرة الأرضية التي تنتهك حقوق الإنسان الأساسية انتهاكاً يُعتبر فاضحاً نسبياً». ويشمل ذلك المساعدات العسكرية، بغض النظر عن الحاجة إليها، وهي تعود إلى سنوات عهد جيمي كارتر.
كما أن دراسة أجراها إدوارد هيرمن على نطاق أوسع كشفت عن علاقة الترابط ذاتها، وأيضاً اقترحت تفسيراً لذلك. فمما لا يدعو إلى العجب أن المساعدة الأميركية تنزع إلى الارتباط بجوٍّ مؤات لعمليات تجارية، ويحسّن هذا الجوَّ عموماً مقتلُ المسؤولين عن تنظيم اليد العاملة والفلاحين والناشطين في مجال حقوق الإنسان، وغيرها من الأعمال المشابهة، ما يؤمن علاقة ترابط ثانوية بين المساعدة والانتهاك الفاضح لحقوق الإنسان.
تسبق هذه الدراسات سنوات عهد ريغان حيث لم يكن الموضوع جديراً بالدراسة لأن علاقات الترابط كانت واضحة للغاية. وتميل الأمور إلى الاتجاه نفسه حالياً.
لا عجب كبيراً في أن ينصحنا الرئيس بالنظر إلى الأمام لا إلى الوراء، فهذه عقيدة تلائم الذين يتولون إدارة العمليات. أما الذين يتأذون منها، فينزعون إلى رؤية العالم بطريقة مختلفة، ما يسبب لنا الانزعاج.
قد يتحجّج امرؤ بالقول إن تنفيذ «نموذج التعذيب» الذي وضعته وكالة الاستخبارات الأميركية لا ينتهك معاهدة التعذيب المعقودة عام 1984، أقلّه كما تفسرها واشنطن. ويشير ألفرد ماكوي إلى أن النموذج المعقد جداً الذي وضعته وكالة الاستخبارات الأميركية استناداً إلى «تقنية التعذيب الأكثر أذية التي وضعها جهاز الاستخبارات الروسية الأسبق الكاي جي بي» يعتمد أولاً على التعذيب العقلي، لا على التعذيب النفسي القاسي الذي يُعتبر أقل فعالية في تحويل الناس إلى أشخاص بلهاء مطواعين.
ويقول ماكوي إن إدارة ريغان راجعت بتأنٍّ معاهدة التعذيب الدولية وأبدت «أربعة» تحفظات «دبلوماسية تفصيلية تركز على كلمة واحد لا غير في المعاهدة التي تتألف من 26 صفحة مطبوعة»، وهي كلمة «عقلي»... وهذه التحفظات الدبلوماسية المبنية بناءً معقداً أعادت تحديد التعذيب كما تفسره الولايات المتحدة، لكي تستثني منه الحرمان الحسي والألم الذي ينزله الإنسان بنفسه، وهما التقنيتان اللتان حسّنتهما وكالة الاستخبارات الأميركية بكلفة باهظة للغاية.
عندما أرسل كلينتون معاهدة الأمم المتحدة إلى الكونغرس لكي يصدّق عليها عام 1994، ضمّنها تحفظات ريغان. وبالتالي استثنى الرئيس والكونغرس لبّ نموذج التعذيب الذي تتبعه وكالة الاستخبارات الأميركية من التفسير الأميركي لمعاهدة التعذيب؛ ويشير ماكوي إلى أن تلك التحفظات «كُرِّرت حرفياً في التشريع الداخلي الذي سُنَّ لكي يعطي قوة شرعية لمعاهدة الأمم المتحدة». ذلك هو «اللغم الأرضي السياسي» الذي «انفجر بقوة استثنائية» في فضيحة أبو غريب وفي قانون اللجان العسكرية المعيب الذي صودق عليه بدعم من الحزبين عام 2006. وهكذا، بعد الانكشاف الأول للجوء واشنطن إلى التعذيب، لفت البروفسور المختص بالقانون الدستوري سانفورد ليفنسون إلى أنه يمكن تبرير ذلك ربما من ناحية تحديد «المستجوب الصديق» للتعذيب، وهو التحديد الذي تبنّاه ريغان وكلينتون في مراجعتهما للقانون المتعلق بحقوق الإنسان.
ذهب بوش طبعاً أبعد من أسلافه في تشريع الانتهاكات الواضحة للقانون الدولي، وقد ألغت المحاكم العديد من ابتكاراته المتطرفة. وفيما يؤكد أوباما، على غرار بوش وبأسلوب يتصف بالبلاغة، التزامنا غير المتردد بالقانون الدولي، يبدو أنه ينوي العودة إلى العمل بإجراءات بوش المتطرفة. ففي القضية المهمة التي واجهت بومدين ببوش في حزيران / يونيو 2008، رفضت المحكمة العليا ادعاء إدارة بوش بأن سجناء غوانتنامو غير مخوّلين نيل الحق في المثول شخصياً أمام المحكمة على اعتبار أنه ادعاء غير دستوري. فاستعرض غلين غرينوالد التبعات. وبما أن إدارة بوش كانت تسعى إلى «الحفاظ على السلطة التي تخوّلها خطف أشخاص من مختلف أرجاء العالم» وسجنهم من دون اتباع الإجراءات القانونية المناسبة، قررت أن تنقلهم إلى بغرام، فتعاملت مع «الحكم الصادر في قضية بومدين، الذي يقوم على أهم الضمانات الأساسية التي يكفلها الدستور عندنا، كما لو كان مجرد لعبة سخيفة: انقل سجناءك المخطوفين إلى غوانتنامو فيملكوا حقوقاً دستورية، ولكن إن نقلتهم، بدلاً من ذلك، إلى بغرام، يمكنك أن تخفيهم إلى الأبد من دون أي إجراء قضائي».
اعتمد أوباما موقف بوش «مقدماً مذكرة إلى المحكمة الفدرالية يعلن فيها بجملتين أنه يعتمد النظرية الأكثر تطرفاً التي قدمها بوش في هذه القضية»، ومفادها أنّ السجناء الذين أُحضروا إلى بغرام من أي مكان في العالم ــــ وفي القضية المعنية هم يمنيون وتونسيون أُلقي القبض عليهم في تايلند والسعودية ــــ يمكن سجنهم إلى أمد غير محدد من دون أن يمتلكوا أي حق من أي نوع كان، ما داموا محتجزين في بغرام لا في غوانتنامو».
في شهر آذار / مارس، رفض قاض فدرالي عيّنه بوش بـ«رفض موقف بوش / أوباما معتبراً أن الأساس المنطقي الذي تخضع له قضية بومدين ينطبق بتساوٍ على بغرام كما على غوانتنامو». فأعلنت إدارة أوباما أنها ستستأنف الحكم، وبذلك وضعت وزارة العدل في عهد أوباما «إلى الجانب الأيمن من سلطة محافظة بشكل متطرف، تميل للسلطة التنفيذية، وللقاضي الرقم 43 الذي عينه بوش للنظر في قضايا تتعلق بالسلطة التنفيذية والاعتقالات من دون الإجراءات القانونية»، ما يمثّل خرقاً جوهرياً للوعود التي أطلقتها حملة أوباما وللمواقف السابقة».
ويبدو أن قضية راسول ضد رامسفيلد تتبع مساراً مشابهاً. فقد اتّهم المدّعون رامسفيلد وغيره من النافذين الكبار بأنهم كانوا مسؤولين عن تعذيبهم في غوانتنامو حيث أُرسلوا بعد أن ألقى عليهم القبضَ الجنرالُ الأوزبكي رشيد دوستوم. ودوستوم هذا سفاح مشهور كان عندئذ قائداً من قادة التحالف الشمالي، وهو زمرة أفغانية تدعمها روسيا وإيران والهند وتركيا ودول آسيا الوسطى، وانضمت إليها الولايات المتحدة عندما هاجمت أفغانستان في تشرين الأول / أوكتوبر 2001. وضعهم دوستوم لاحقاً في عهدة الولايات المتحدة مقابل أموال طائلة كما يُقال، علماً بأن المدّعين زعموا أنهم سافروا إلى أفغانستان من أجل تقديم مساعدة إنسانيةسعت إدارة بوش إلى دفع المحكمة إلى رفض النظر في القضية. أما وزارة العدل في ولاية أوباما، فقد قدّمت مذكرة تدعم فيها موقف بوش القائل إن المسؤولين الحكوميين لا يمكن محاكمتهم بتهمة التعذيب وانتهاكات أخرى للإجراءات القانونية، لأن المحاكم لم تحدّد بعد بوضوح الحقوق التي يتمتع بها السجناء.
هذا ونُقل أيضاً أن أوباما ينوي إعادة إحياء اللجان العسكرية، وهي أحد أقوى انتهاكات حكم القانون في سنوات عهد بوش؛ ثمة سبب لذلك. يقول محامو الإدارة إن «المسؤولين الذين يعملون على قضية غوانتنامو أصبحوا قلقين من مواجهة حواجز كبيرة تعيق محاكمة بعض المشتبه فيهم بأعمال إرهابية في المحاكم الفدرالية. فقد يصعّب القضاة محاكمة موقوفين خضعوا لمعاملة قاسية، أو قد يصعّبون على المدعين العامين أن يستخدموا دليلاً أقاويل جمعتها وكالات استخابارتية». يبدو أنه تصدّع خطير في النظام القضائي الجنائي.
على صعيد آخر، يدور جدل كبير عمّا إن كان التعذيب فعالاً في استخراج المعلومات، على افتراض أنه يمكن تبريره، كما يبدو، إذا كان فعالاً. تبعاً للحجة ذاتها، عندما ألقت نيكاراغوا القبض على الطيار الأميركي، يوجين هاسنفس، عام 1986 بعد إنزال طائرته التي كانت تؤمن المساعدة لقوات الكونترا التي دعمها ريغان، ما كان يجب أن تحاكمه وتحكم عليه بالإدانة ثم تعيده إلى الولايات المتحدة كما فعلت، بل كان يفترض بها أن تُطبق عليه نموذج التعذيب الذي وضعته وكالة الاستخبارات الأميركية لكي تحاول أن تستخرج منه معلومات عن أعمال وحشية إرهابية أخرى يجري التخطيط لها وتنفيذها في واشنطن، لا عن مسألة صغيرة بالنسبة إلى بلد صغير وفقير يتعرض لهجوم إرهابي من الدولة الأعظم عالمياً. وكان ينبغي على نيكاراغوا طبعاً أن تقوم بالمثل لو استطاعت أن تلقي القبض على المنسّق الأعلى للإرهاب، جون نيغروبونتي، الذي كان حينها سفيراً في الهندوراس وعُيِّن لاحقاً المسؤول عن محاربة الإرهاب، من دون إثارة أي ضجة.
وكان ينبغي على كوبا أن تحذو حذوها لو تمكنت من وضع يدها على الإخوة كينيدي. ولا حاجة إلى الكلام عما كان يجب أن يفعله الضحايا بكيسنجر وريغان وغيرهما من المسؤولين عن الإرهاب الذين تبدو مآثرهم أكبر بأشواط مما فعلته «القاعدة»، والذين بلغتهم حتماً معلومات وفيرة كان يمكنها أن تحول دون المزيد من «القنابل الموقوتة».
لا تبدو مثل هذه الاعتبارات، التي تتوافر بغزارة، أنها تُطرح أبداً في النقاشات العلنية. وبالتالي، نعرف في الحال كيفية تقييم الحجج المتعلقة بالمعلومات الثمينة.
ثمة ردّ، وهذا مؤكد: إرهابنا، ولو أن الإرهاب طبعاً غير مؤذ بما أنه ينبع من المدينة التي على الجبل. وربما أبلغ عرض لهذه الفرضية تقدّم به رئيس تحرير مجلة «نيو ريبابليك»، مايكل كينسلي، وهو ناطق محترم باسم «اليسار». فقد عبّرت منظمة «أميركاز واتش» (منظمة حقوق الإنسان) عن احتجاجها على التأكيد الذي أصدرته وزارة الخارجية بأن أوامر رسمية أعطيت لقوات واشنطن الإرهابية بمهاجمة «أهداف سهلة» ــــ أهداف مدنية غير محمية ــــ وتجنّب جيش نيكاراغوا، وهو أمر استطاعت أن تفعله بفضل سيطرة وكالة الاستخبارات الأميركية على المجال الجوي في نيكاراغوا، وبفضل أنظمة الاتصال المتطورة التي زُوِّدت بها قوات الكونترا. ورداً على ذلك، شرح كينسلي أن الهجومات الإرهابية الأميركية ضد أهداف مدنية يمكن أن تُبرَّر إذا كانت تطابق معايير براغماتية: فيجب على «سياسة متعقّلة» أن تنجح في امتحان تحليل الكلفة ــــ المكسب، وهو تحليل «مقدار الدم والبؤس الذي ستسببه، واحتمال بروز ديموقراطية في نهاية المطاف»، «الديموقراطية» كما تحددها النخب الأميركية.
لم تثر أفكاره أي تعليق، وفق معلوماتي، وهي تعتبر مقبولة على ما يبدو. وقد يستتبع ذلك مبدئياً أن قادة الولايات المتحدة وعملاءهم ليسوا مَلومين لاعتمادهم مثل هذه السياسات المتعقّلة عن حسن نية، حتى ولو أن أحكامهم قد تكون مخطئة أحياناً.
ربما تكون الملامة أكبر، حسب المعايير الأخلاقية السائدة، لو اكتُشف أن التعذيب الذي تمارسه إدارة بوش يؤدي إلى مقتل أميركيين. وتلك هي في الواقع الخلاصة التي استنتجها الرائد ماثيو أكسندر (اسم مستعار)، وهو أحد المستجوبين الأكثر تمرّساً في العراق، استخرج «المعلومات التي قادت إلى تمكّن الجيش الأميركي من تحديد مكان أبي مصعب الزرقاوي، مسؤول القاعدة في العراق»، وفق ما نقله المراسل باتريك كوكبيرن. فقد عبّر ألكسندر عن ازدرائه وسائل الاستجواب الوحشية، ويعتقد أن «استخدام الولايات المتحدة التعذيب» لا يؤدي إلى استخراج معلومات غير مفيدة وحسب، بل «أثبت أنه يعطي نتائج معاكسة للمبتغاة لدرجة أنه قد يكون أدى إلى مقتل جنود أميركيين بمقدار ما قُتل مدنيون في أحداث 11 أيلول». فقد اكتشف ألكسندر، من مئات عمليات الاستجواب، أن محاربين أجانب قدموا إلى العراق كردّ فعل على التعسفات الممارسة في غوانتنامو وأبو غريب، وأنهم، مع حلفاء لهم في الداخل، تحولوا إلى التفجيرات الانتحارية وغيرها من العمليات الإرهابية للسبب عينه.
كما أن ثمة دليلاً متزايداً بأن التعذيب الذي أمر به تشيني ــــ رامسفيلد أنشأ إرهابيين. وإحدى الحالات التي دُرست بعناية تتجسد بحالة عبد الله العجمي الذي سُجن في غوانتنامو بتهمة «الاشتباك بالرصاص في معركتين أو ثلاث ضد التحالف الشمالي»، إذ انتهى به الأمر في أفغانستان بعدما فشل في بلوغ جمهورية الشيشان للنضال ضد الاجتياح الروسي.
بعد أربع سنوات من المعاملة الوحشية في غوانتنامو، أعيد إلى الكويت. فسلك طريقه نحو العراق، وفي شهر آذار / مارس من عام 2008، قاد شاحنة محملة بالمتفجرات إلى مجمع عسكري عراقي، فقتل نفسه و13 جندياً، «أبغض عمل عنف منفرد نفّذه سجين سابق من سجناء غوانتنامو»، كما نقلت صحيفة «واشنطن بوست»، فيما خلص محاميه الأميركي إلى القول إنها النتيجة المباشرة لاعتقاله التعسفي. هذا ما يتوقعه أيّ إنسان عاقل.
تتمثّل حجة قياسية أخرى للجوء إلى التعذيب بالسياق الذي تأتي ضمنه «الحرب على الإرهاب» التي أعلنها بوش بعد أحداث 11 أيلول، وهي «جريمة ضد الإنسانية» نُفذت بـ«شر ووحشية مرعبة»، كما قال روبرت فيسك.
لقد جعلت هذه الجريمة القانون الدولي التقليدي «عتيق الطراز» و«بالياً»، هذا ما نصح به بوش مستشارُه القانوني ألبرتو غونزاليز الذي عُيّن في ما بعد نائباً عاماً. وقد كُررت هذه العقيدة على نطاق واسع بشكل أو بآخر في التعليقات والتحاليل.
لا شكّ في أن اعتداء 11 أيلول فريد من نوعه من نواح عديدة. الناحية الأولى هي إلى أين كانت الأسلحة موجهة: فقد كانت موجهة إلى الاتجاه المعاكس نموذجياً. في الواقع، كان ذاك الاعتداء الأول الذي خلّف نتائج على أرض الوطن منذ أن أحرق البريطانيون واشنطن عام 1814. والناحية الثانية الفريدة أيضاً هي مدى الرعب الذي ولّده فاعل ليس دولة. ولكن مهما كانت الاعتداءات مرعبة، كان يمكنها أن تكون أسوأ. فلنفترض أن منفذي الاعتداء قصفوا البيت الأبيض، وقتلوا الرئيس، وأقاموا دكتاتورية عسكرية ضارية قتلت عدداً يتراوح بين 50000 و100000 شخص، ومارست التعذيب بحق 700000 شخص آخر، وأنشأت مركز رعب دولياً هائلاً قام بعمليات اغتيال، وساهم في فرض دكتاتوريات عسكرية مشابهة في أمكنة أخرى، ونفّذ عقائد اقتصادية هدمت الاقتصاد بالعمق لدرجة أن الدولة اضطرت إلى تولي زمام أموره عملياً بعد بضع سنوات.
كان ذلك ليكون أسوأ بكثير مما جرى في 11 أيلول 2001. وقد حدث هذا الأمر بما يسميه سكان أميركا اللاتينية غالباً «اعتداءات 11 أيلول الأولى» التي وقعت عام 1973. تغيرت الأرقام لكي تأتي النسب معادلة لعدد الأفراد، وهي طريقة واقعية لقياس الجرائم. ويقود تتبّع آثار المسؤولية عن الأحداث إلى واشنطن مباشرة. وبالتالي، إن التشابه، الملائم تماماً، غير مُدرَك بوعي، فيما تُحصر الوقائع ضمن إطار «استغلال الواقع» الذي يدعوه السُذّج تاريخاً.
هذا ويجب ألا يُنسى أن بوش لم يعلن «الحرب على الإرهاب»، بل أعاد إعلانها. فقبل عشرين سنة، تسلمت إدارة ريغان الحكم معلنة أن أحد محاور سياستها الخارجية سيكون الحرب على الإرهاب، «وباء العصر الحديث» و«عودة إلى البربرية في عصرنا»، إذا أُريد أخذ عينات من الخطابات الحماسية السائدة في تلك الأيام.
مُحيت تلك الحرب على الإرهاب من الوعي التاريخي لأن النتيجة لا يمكن أن تُدرَج ضمن الأسس التي تُبنى عليها الأحكام: مئات آلاف القتلى في الدول المهدمة في أميركا الوسطى، وأكثر بكثير في أمكنة أخرى، بينهم نحو 1.5 مليون في الحروب الإرهابية التي رعاها في الدول المجاورة حليفُ ريغان المفضل، نظام التمييز العرقي في جنوب أفريقيا، الذي اضطر إلى الدفاع عن نفسه بوجه المؤتمر الوطني الأفريقي برئاسة نيلسون مانديلا، أحد «أشهر المجموعات الإرهابية»، كما قررت واشنطن عام 1988. وللإنصاف، يجب أن يُضاف أنه بعد 20 سنة، صوّت الكونغرس على شطب المؤتمر الوطني الأفريقي من لائحة المنظمات الإرهابية فأصبح مانديلا أخيراً الآن قادراً على دخول الولايات المتحدة من دون أن يستحصل على إذن من الحكومة.
تُدعى العقيدة السائدة أحياناً «الاستثنائية الأميركية»، غير أنها ليست شيئاً من هذا القبيل. ربما تكون أقرب إلى قوة عالمية بين القوى الامبريالية. ففرنسا كانت تثني على «مهمتها التمدينية» فيما دعا وزير الحرب الفرنسي إلى «إبادة أهل البلاد الأصليين» في الجزائر. وكان نبل بريطانيا «بدعة في العالم»، بحسب ما أعلن جون ستيوارت ميل، فيما حثّ على عدم إطالة تلكّؤ هذه القوة الملائكية عن إنهاء تحريرها للهند.
هذا المقال التقليدي عن التدخل الإنساني كُتب بعد أمد قصير من الكشف العلني عن الأعمال الوحشية المرعبة التي ارتكبتها بريطانيا للقضاء على ثورة الهند التي اندلعت عام 1857. وكان الاستيلاء على باقي الهند، إلى حد كبير، محاولة للتمكن من احتكار الأفيون من أجل مشروع بريطانيا الضخم المتمثل بالمتاجرة بالمخدرات، مشروع يُعَدّ الأكبر في تاريخ العالم ويعجز أيّ آخر عن مضاهاته، وقد صُمِّم بدايةً من أجل إرغام الصين على القبول ببضائع بريطانيا المصنّعة. وبصورة مشابهة، ما من سبب يدعو إلى الشك في صدق المتسلطين العسكريين اليابانيين الذين كانوا يُحضِرون «جنة أرضية» إلى الصين في ظل وصاية يابانية رقيقة، فيما كانوا ينفذون مذبحة نانجنغ. والتاريخ مفعم بحقبات مجيدة
مشابهة.
ما دامت مثل فرضيات «الاستثنائية» هذه تبقى مترسخة بثبات، يمكن عمليات الكشف عن «استغلال التاريخ» من حين لآخر أن تتفجر، فتكون الغاية منها حجب جرائم رهيبة. كانت مجزرة ماي لاي مجرد عملية هامشية بالنسبة إلى الأعمال الوحشية الأعظم الواسعة النطاق التي طبعت برامج التهدئة بعد هجوم تيت، والتي جرى تجاهلها فيما ركزت عمليات الإدانة على تلك المجزرة وحدها.
لا شكّ في أن فضيحة واترغيت كانت جريمة، ولكن السخط الذي أثارته حلّ محل السخط الذي كان يجب أن تثيره جرائم أسوأ منها لدرجة تتعذر مضاهاتها بها ــــ الاغتيال المدبّر ـــ من جانب مكتب التحقيق الفدرالي، للقائد الأسود فريد هامبتون كجزء من أعمال القمع ضمن إطار برنامج مكافحة التجسس السيّئ الذكر، أو قصف كمبوديا، إن شئنا ذكر مثلَين فاضحَين. التعذيب شائن ما فيه الكفاية، لكن اجتياح العراق جريمة أسوأ منه بأشواط. ومن الشائع جداً أن تكون لأعمال وحشية مختارة هذه المهمة.
إن فقدان الذاكرة التاريخية ظاهرة خطيرة، ليس لأنه يقوّض الأمانة الأخلاقية والثقافية فحسب، بل أيضاً لأنه يقيم الأساس للجرائم المقبلة.
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)