قاسم عزّ الدين *راع الشيخة موزة قرينة أمير قطر، مشاهدة فظائع الجرائم الإسرائيلية في غزّة، فتبرّعت مشكورة بخرق جدار الصوت المريب، ودعت إلى مؤتمر يعقد قريباً في الدوحة للبحث في محاكمة المجرمين. لا ريب أن المؤتمر المرتجى سيطغى عليه البحث القانوني والمهني في القانون الدولي، إذ بدأ المئات من المختصين والخبراء في القانون الدولي يعدّون أبحاثهم ومطالعاتهم القانونية، وهم سيطغون على المؤتمر بحكم شهرتهم واجتهاداتهم وبحكم مواقعهم في اتحادات المحامين والهيئات التمثيلية الأخرى.
لكن تجربة هؤلاء الخبراء المختصين في القانون الدولي، تبيّن، منذ سنوات عديدة، أن النجاح في محاكمة الجرائم الإسرائيلية، ليس مسألة اجتهاد في القانون الدولي، بل هي مسألة قانون جزائي ومسألة سياسية أولاً وأخيراً. فكل القوانين الأرضية والسماوية تحتّم محاكمة الجرائم الإسرائيلية بداهة ودون أي جهد خاص، لكن «المجتمع الدولي» والحكومات الغربية والشرقية، يضعون حواجز سياسية شاهقة أمام الأمر البديهي، ويمنحون إسرائيل «حق الاستثناء»، بل يشرّعون بالسياسة جرائمها ويطلعون القوانين، لا سيما القوانين الدولية.
وخلال بحثنا، نحن المهتمين غير المختصين، عن سبل محاكمة جرائم الحرب الإسرائيلية في عدوان تموز 2006، تبيّن لنا من المختصين المهنيين شرقاً وغرباً، أن طريق محكمة العدل الدولية مقفل بمفاتيح مجلس الأمن ومفاتيح الدول المنضوية في «الشرعية الدولية». وتبيّن لنا كذلك أن طريق المحكمة الجزائية الدولية مقفل هو الآخر بمفتاح المدعي العام الدولي، المنضوي بدوره في «الشرعية الدولية». ولم نفهم بخبرتنا القانونية المحدودة، لماذا يصرّ أغلب خبرائنا على سلوك طريق مسدود بينما أمامهم خيارات أخرى وطرق مفتوحة. نراهم يبذلون جهداً كبيراً لكي يبرهنوا في أبحاثهم ومطالعاتهم «أن المجتمع الدولي لا يريد تطبيق القوانين الدولية»، وهو جهد، لا شك مفيد للقانون الدولي وفهم الأبعاد القانونية لسياسة الكيل بمكيالين، لكنه لا يؤدي إلى محاكمة الجرائم الإسرائيلية، وخاصة أن إسرائيل والدول العربية المعنية بالجرائم الإسرائيلية، لم توقع على معاهدة روما التي تتيح نظرياً إمكان محاكمة بعض الجرائم، دون المرور بدول «المجتمع الدولي». فهمنا أن الطريق الآخر المفتوح على خطين عريضين، هو طريق الدعاوى الفردية الجزائية أمام المحاكم الوطنية في أوروبا، من جانب وكلاء الضحايا الذين يحملون جنسية مزدوجة. وفهمنا منهم أن هذا الطريق قلّما يسلكه المختصون والمهنيون لأسباب تتطلّب أكثر من الأبحاث والمطالعات والاجتهادات القانونية. فهو طريق طويل ومتعب ومكلف في آن، لكنه يؤدي في نهاية المطاف إلى المحاكمة، إذا ترافق مع الحنكة والمثابرة وأخذ بعين الاعتبار المزاوجة بين الدعاوى الجزائية وكسر الحواجز السياسية الشاهقة. اكتشفنا خلال تجربتنا العملية المحدودة قانونياً، لدى إنشاء محكمة الضمير العالمية التي حاكمت جرائم الحرب الإسرائيلية في بروكسل عام 2008، وفي نقاشنا الطويل مع أصحاب المبادرات الجزائية أمام المحاكم الأوروبية، أن الدعاوى الجزائية عرضة للمماطلة والمراهنة على اليأس والتعب والنفقات إذا لم تتلازم وما يأتي:
أ ـــ تقديم العديد من الدعاوى دفعة واحدة في كل بلد أوروبي وفي العديد من البلدان الأوروبية، بحيث تنتقل الدعوى إلى المحاكم الأوروبية، ما إن يقبل قاضٍ أوروبي نزيه النظر في إحدى الدعاوى.
ب ـــ تقديم الدعاوى عبر وكلاء من الجمعيات الأوروبية الحقوقية والمهنية والنقابية... للمحافظة على شعرة حق المواطَنة الأوروبية في القضاء. فالمواطن مزدوج الجنسية، وإن كان ضحية، يبقى مواطناً من الدرجة الثانية في البلدان العريقة الديموقراطية، وخاصة إذا كان ضحية الجرائم الإسرائيلية.
ج ـــ إنشاء كتلة أوروبية ـــــ عالمية من المحامين المتطوعين والجمعيات الحقوقية والروابط المهنية والاتحادات، لتوسيع الضغط الحقوقي وإعداد ملفات الدعاوى الجزائية الفردية والمرافعات. وهذا الأمر يحتاج إلى جهد قانوني مشكور، لكن في القانون الجزائي لا في بحث القانون الدولي، والأمران مختلفان ولكل منهما ناس وأتراب.
وعلى الرغم من كل هذا الجهد ـــــ إذا تحقق ـــــ يمكن أن تعلق الدعاوى الجزائية في أدراج القضاة ورؤساء المحاكم، لأن الضغط الإسرائيلي على أجهزة الدول الأوروبية، وبالتالي على القضاء الأوروبي، لا يمكن كسره بضغط القانون والقانونيين وحدهم، بل بمزاوجته مع ضغط سياسي ــــــ حقوقي على غرار المحكمة الدائمة للشعوب أو محكمة الضمير العالمية. فأهمية هذه المحاكم هي في القانون والحقوق لإعادة الاعتبار إلى الضحايا بصفتهم ضحايا جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية. وهي أيضاً في السياسة والسياسة الحقوقية حيث تُكوّن كتلة ضاغطة من المفكرين والجامعات والجمعيات الحقوقية والبرلمانيين... تتحمل مسؤولية الدفاع عن الحقوق بمواجهة سياسات حكوماتها التي تنصاع لضغوط سياسية عارية. وبهذا الصدد، ظهرت أخيراً مبادرات عديدة في البلدان الأوروبية «دفاعاً عن غزّة»، وهي مبادرات، إذا وصلت إلى خواتيمها، يكمل بعضها بعضاً وتفرز الغث من السمين، كالرأسمال الثقافي يتراكم كلما انتشر وتعدّد.
ولا ندري إذا كان المهنيون والمختصون في القانون الدولي، سيتركون حيّزاً للبحث الجدي في انتهاج الطريق المفتوح أمام الدعاوى الجزائية الفردية أو محاكم الضمير، أثناء عملهم في مؤتمر الدوحة، أم سيصرّون، كما هو متوقع، على البحث والمرافعة في الطريق المسدود. لكن مبادرة الشيخة موزة في مؤتمر الدوحة لا تعفي الآخرين من تحمّل مسؤولياتهم والقيام بأدنى واجباتهم تجاه ضحايا الجرائم الإسرائيلية في فلسطين ولبنان وأيضاً في مصر وسوريا والأردن، فالجرائم لا ينطبق عليها مرور الزمن وحتى معاهدات «السلام».
فالآخرون الذين لم يتحمّلوا مسؤولياتهم حتى اليوم هم كثيرو العدد والعدة، وهم ناهيك عن مجلس الأمن والأمم المتحدة ودول «المجتمع الدولي»، الجامعة العربية ومؤتمر الدول الإسلامية وكل الدول العربية والإسلامية المرتبطة بمعاهدات ومواثيق «للدفاع عن الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية». وإلى جانبهم، جمعيات حقوق الإنسان المنتشرة كالنار في الهشيم أينما كان، واتحادات المحامين والمحامين العرب ودُعاة الديموقراطية والحقوق... لكن المسؤول المباشر في الحالة الفلسطينية هو السلطة الفلسطينية، التي ينبغي عليها أن تقتنع أولاً بأن إسرائيل ارتكبت الجرائم وبأن «حماس» ليست مَن أجبرها على ارتكاب الجرائم «دفاعاً عن نفسها من الاعتداء بالصواريخ».
وفي الحالة اللبنانية، المسؤول المباشر هو الحكومة اللبنانية التي أخفت اليوم قناعتها بمسؤولية حزب الله عن الجرائم «دفاعاً عن سوريا وإيران». وهذا الإخفاء فرصة ملائمة لحكومة الوحدة الوطنية والثلث الضامن للقيام بأقل الواجبات تجاه ضحايا العدوان الإسرائيلي عام 2006، وأولها محاكمة جرائم الحرب وإعادة الاعتبار للضحايا. ينبغي على وزراء الثلث الضامن في حكومة الوحدة الوطنية، العمل على إعادة إحياء الوديعة التي أودعتها الحكومة السابقة في عهدة الوزير السابق بهيج طبارة، لمحاكمة جرائم إسرائيل في لبنان، بموازاة مساهمة الحكومة في «المحكمة الدولية». فالوديعة البالغة مليوناً وستمئة ألف دولار، سحبتها الحكومة السابقة من الوزير طبارة حيث تبيّن لها انزعاج «المجتمع الدولي» من المساس بـ«حق إسرائيل»، وهو حق للضحايا ينبغي أن يعود إليهم وتضعه حكومة الوحدة الوطنية بتصرفهم لإقامة دعاوى جزائية فردية ومحاكم ضمير حقوقية ــــــ سياسية مكمّلة للدعاوى الجزائية. ينبغي على الحقوقيين والمحامين ودُعاة الديموقراطية وحقوق الإنسان في لبنان، أن يتحمّلوا مسؤولياتهم بدورهم، فإذا كانوا لا يستطيعون اتخاذ المبادرات العملية في الطريق الصعب المفتوح، فلا ريب يستطيعون تذكير الحكومة بأقل واجباتها، ولا بأس أن يجعلوا مع الدعاء قطراناً.
* كاتب لبناني