رضوان مرتضى
نقلت التشكيلات القضائية القاضي جون القزي من رئاسة محكمته في جديدة المتن إلى مركز مستشار في إحدى غرف محكمة التمييز. النقل الحاصل، وفق عدد من المتابعين للشأن القضائي، يحقّق هدفين اثنين: الأول هو تجريد القاضي القزّي من سلطته عبر منعه من إدارة أي ملف قضائي. ويتمثّل الثاني بـ«العقوبة الزجرية» التي يُجسّدها هذا الاستبعاد، فيكون القاضي قزّي عبرة لمن قد تُسوّل له نفسه أن يحذو حذوه. وبالتالي يُسجّل للتشكيلات القضائية سابقة أن يؤتى بعضو أسبق في مجلس القضاء الأعلى كمستشار في محكمة التمييز.
بدأ القاضي جون القزي مسيرته القضائية منذ مطلع التسعينيات. ترك بلاد الاغتراب والتحق بالسلك القضائي. وقتذاك كان راتب القاضي لا يتجاوز تسعين دولاراً، لكنه طمِع بملاحقة حُلم راوده ووالدته التي توفيت قبل أن ترى ابنها على قوس العدالة. تميّز منذ البداية بسلوكه الرفيع لدى جميع من عرفه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأحكام التي أصدرها. رفض القزي الركون للسائد في «العدلية». منح النص القانوني حراكاً إنسانياً، فأرسى اجتهادات في قضايا الجنسية والأحوال الشخصية والمعونة القضائية انتصر فيها للمهمّشين من اللبنانيين والأجانب. كان القزي السبّاق إلى تطبيق التزامات الحكومة اللبنانية بالمعاهدات الدولية التي تنص على المساواة بين الرجل والمرأة في قضايا منح الجنسية للأبناء (حكم منح أبناء السيدة سميرة سويدان الجنسية اللبنانية)، وبين المواطن والمقيم المعدم في قضايا الحصول على المعونة القضائية، وغيرها من أحكام التبني ومعظم ما يدخل في إطار تعزيز حماية حقوق الإنسان.
مسيرة القاضي قزّي استمرّت وفق المرسوم لها، ما خلا بعض شوائب الواقع السياسي التي وتّرت صفوه. ففي كانون الثاني من عام 2005، اختير القزّي عُضواً في مجلس القضاء الأعلى، لإكمال ولاية القاضي جورج عوّاد الذي نُقل إلى التفتيش المركزي. المدّة التي قضاها القزّي في المجلس المذكور كانت عشرة أشهر، ما يُتيح له التجديد لولاية ثانية وفق نص قانون القضاء العدلي، لكن سُجّلت سابقة في هذا الخصوص، إذ إنه استُبعد لأسباب لم تُحدّد، لكن الكلام المتداول ربط أسباب الاستبعاد بحادثة التحقيق الذي أجراه والد زوجته، قاضي التحقيق الأول السابق في جبل لبنان الرئيس جوزف القزّي، مع رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة عندما خرج الأخير من وزارة المال. ويُقال إن القاضي جوزف القزي تعامل مع السنيورة كما يتعامل أي قاضي تحقيق مع أي مستجوب. وحُكي حينها أن الرئيس فؤاد السنيورة أصرّ على استبعاد القاضي جون القزّي عن عضوية مجلس القضاء الأعلى بعدما علم بقرابته بالقاضي جوزيف القزّي. حصل اختلاف على الأسماء بين السنيورة والرئيس السابق إميل لحود، فاختير القاضي نعمة لحّود بدلاً من جون القزي.
تلك الحادثة كانت بمثابة بداية«الفيتو» على القاضي القزّي، فمنذ ذلك الحين أُجريت ثلاثة مشاريع تشكيلات، أُبقي فيها في مكانه، قبل أن تنقله التشكيلات الأخيرة إلى رتبة مستشار «عاطل من العمل عملياً». لم يُقَرّ المشروعان الأولان للتشكيلات القضائية. أما المشروع الثالث للتشكيلات التي صدرت في بداية عهد الرئيس غالب غانم، فقد ترجمت التوجهات السابقة، وأبقت القاضي القزّي في مكانه كي يكون ذلك أقصى طموحه. إذاً، بقي القزي في مكانه، لكنه تميّز بأحكامه في الأحوال الشخصية التي نُشر معظمها في مجلات قانونية متخصّصة.
تراكمت الأمور إلى أن أصدر القاضي القزي حكم منح الجنسية لأبناء سميرة سويدان يوم 17 حزيران 2009. وقفت السلطة السياسية الحاكمة علناً في وجه هذا الحكم، واستؤنِف ليصبح كأنه لم يكن. بعد ذلك، انفجرت الأمور في وجه القزي عندما قررت الجمعية اللبنانية لحقوق الإنسان تكريمه عبر منحه جائزة رجل عام 2009، لمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان. تسلم القزّي جائزته، وألقى كلمة تحدّث فيها عن مفهوم العدالة وعن رؤيته للقضاء كما يحلم. ثم تحدّث عن موجب التحفّظ الذي يمنع القاضي من إبداء رأيه. إذ رأى أن القاضي يمثّل سلطة مستقلّة بحدّ ذاتها، وليس موظّفاً يرجع إلى مرؤوسه مخافة أن يُعزل، قبل أن يختم خطابه بما مضمونه أنه بعد هذه الكلمة التي يلقيها سيُستفرَد به ليُهشّم، لكنّه كان يرى أن في الحياة لحظات تختصر عُمراً، فتلك كانت هي اللحظة المنشودة بالنسبة إليه. ومنذ ذلك الحين، بدأت ملاحقة القزي في مجلس القضاء الأعلى الذي استدعاه واستجوبه لأنه لم ينل إذناً لإلقاء خطاب، علماً بأن قانونيين يؤكدون أن القاضي غير ملزم بالحصول على إذن إذا لم يكن تصريحه مرتبطاً بمضمون الدعاوى التي ينظر فيها.
لقطة
ينقسم القضاة في العدلية بين مؤيد للقزي ومعارض له. يرى «المؤيدون» أنه لم يخالف روح القانون، بل أرسى اجتهادات تلتزم بكل تعهدات لبنان التي تسمو فوق النصوص المحلية.
ويؤكدون أن مجلس القضاء الأعلى لم يراع كون القزي واحداً من القضاة القلائل الذين ليست لديهم ملفات عالقة في دوائرهم، وأنه عندما تسلم رئاسة محكمة الدرجة الأولى في المتن، كان في دائرته نحو 200 ملف غير مبتوت، فتمكن القزي من حسم هذه الملفات في مدة قصيرة جداً، بالإضافة إلى تمكنه من حل عدد كبير من القضايا بالمصالحة.
أما من عارضوا بحزم حكم القزي بمنح الجنسية لأبناء سيدة لبنانية، فلم يوافق معظمهم على تعامل مجلس القضاء الأعلى معه من باب «عدم جواز معاقبة القاضي على اجتهاده مهما كان».
بين القزي وميرزا
اعترف وزير العدل إبراهيم نجار في أكثر من مناسبة بوجود شوائب في جسم القضاء اللبناني، وخاصة لناحية الفساد. لكن أحد أبرز المسؤولين القضائيين في لبنان، عندما سألته «الأخبار» عن سبب تعيين القزي مستشاراً في محكمة التمييز، لم يجد أسباباً لذلك سوى القول إن القزي «رأسه كبير، ويحب الإعلام، ويصرح من دون إذن، ويفسر القانون وفق هواه»! وبناءً على هذه «الجرائم»، أحيل القزي على التفتيش القضائي بعد الخطاب الذي ألقاه عام 2009. ويلفت متابعون لقضايا العدلية إلى أن مجلس القضاء تعامل مع القزي بهذه الطريقة، فيما تجاهل، على سبيل المثال لا الحصر، ما يقوم به القاضي سعيد ميرزا عندما يوزع مكتبه على وسائل الإعلام مطالعاته في قضايا محالة على المجلس العدلي، رغم أن هذه المطالعات مشمولة بسرية التحقيق.