strong> مفيد مصطفى
55 بيتاً حُرمت نعمة التعايش واتهامات للحكومة ببثّ الفرقة

بعد أربع سنوات في المحاكم، حسم القضاء اللبناني قضية الانفصال الذي طالب به أبناء قرية سلساتا عن كفرمشكي في 25 تشرين الأول 2004. لكن هذا القرار لم ينهِ المشاكل بين أبناء القريتين، خصوصاً أن معظم خدمات سلساتا كانت قائمة على عاتق بلدية كفرمشكي

قد لا يكون مستغرَباً ألّا يعرف الإنسان حقه في قطعة أرض، وقد يحصل خلاف على حصّة في سيارة أو بيت. لكن من المستغرب أن يحصل خلاف حول قرية، وأن نسمع أبناءها يتبادلون الاتهامات: «هذه القرية لنا»... «لا ليست لكم، هي لنا». لكن هذه المشكلة موجودة فعلاً، بين بلدتي سلساتا وكفرمشكي في قضاء راشيا ـــــ البقاع الغربي. فالأخيرة تدّعي أن سلساتا تابعة لها. وسلساتا بدورها تتّهم كفرمشكي بضمّها إليها غدراً وبتزوير الأوراق. لقد تمكنت سلساتا (وأبناؤها من الطائفة السنية) من الانفصال عن كفرمشكي (التي يتبع أبناؤها الطائفة الأرثوذكسية) بعد جلسات طويلة في المحاكم دامت أربع سنوات بدءاً من عام 2000.

بداية الخلاف

لا يتجاوز عدد البيوت في كفرمشكي خمسين بيتاً. وتقع البلدة على تلة عالية موازية لجبل الشيخ. غير بعيد عنها، نحو كيلومترين فقط إلى الأمام، خمسة بيوت ومسجد ومراحان (مزرعتا ماعز). هنا تغيب أبسط معالم الحياة، حتى دكاكين السمانة غير موجودة. إنها سلساتا المعروفة بقرية النبي صفا نسبةً إلى مقام موجود فيها يحمل هذا الاسم.
كان لكفرمشكي ـــــ سلساتا بلدية موحدة قبل عام 2000 تحت اسم بلدية كفرمشكي. وكانت سلساتا ممثلة فيها بعضوين أحدهما نائب رئيس البلدية. هذا الواقع استمرّ عقوداً من الزمن، فما الذي حصل في عام 2000 لكي يطالب أهالي سلساتا بحقهم ولماذا لم يفعلوا ذلك سابقاً؟
الإجابة، من وجهة نظر سلساتا، يقدّمها محمد يوسف محفوظ الذي انتدب نفسه متحدّثاً باسم القرية ومطالباً بحقوقها. يُخرج محفوظ ملفاً سميكاً مليئاً بالقرارات والقوانين والمراسيم التي تثبت «حقه» في البلدة ويبدأ بسحب الأوراق.
تعود الورقة الأولى إلى عام 1943. هي عبارة عن القرار العقاري الرقم 116 الذي يثبت وجود 27 قرية في قضاء راشيا من بينها قرية سلساتا. يعترف محفوظ بأنهم كانوا يتبعون قرية كفرمشكي إدارياً، ويؤكد أنهم «قبل عام 2000 كنا نعيش بمحبة وتراض مع أهالي كفرمشكي ونشاركهم كلّ شيء». لكن...
وصل إلى محفوظ بالصدفة خبر بأن بلدية كفرمشكي تمكنت من الحصول على توقيع ستة نواب، تحديداً نواب البقاع الغربي ـــــ راشيا، على مشروع قانون يقضي بضمّ سلساتا إلى كفرمشكي إدارياً وعقارياً. يقول محفوظ «هذا ما أثار غضبنا، خصوصاً أننا لم نكن على علم بما يحصل ولم يستشرنا أحد». يضيف: «حتى ذلك التاريخ كنّا راضين بالعيش وراضين وراضين بالتوأمة»، إلا أن ما أزعجهم هو «الغدر». ويروي أنه قبل البدء بأي تحرّك «اتصلت بالنائب السابق إيلي الفرزلي لأتأكد من الأمر فأكده لي وأخبرني بصحة الموضوع». عندها بدأ التحرك على عدة جبهات «لاسترداد الضيعة».

عرائض تضامنية

الجبهة الأولى كانت دار الفتوى وتحديداً مفتي البقاع خليل الميس. يرفض محفوظ أن يعطي لهذا التحرك طابعاً مذهبياً أو طائفياً «أثرنا الموضوع لدى المفتي لأن للأوقاف الإسلامية مئات الدونمات من الأراضي في منطقة سلساتا العقارية»، ويضيف أن «المفتي أثار الموضوع في معظم قرى البقاع الغربي ومساجده وجمعنا تواقيع على عرائض تضامنية مع القرية من مختلف المساجدأما الجبهة الثانية فكانت نواب المنطقة الذين وقّعوا مشروع القانون. ويؤكد محفوظ أن «مفتي البقاع جمع النواب وواجههم بالأمر، وأقرّوا بعد أن علموا حقيقة الموضوع بأنهم غُدروا بهذا القانون». بعد ذلك «تراجع النواب عن قرارهم ووقّعوا مشروع قانون جديد يعيد الأمور إلى ما كانت عليه».
ويلفت محفوظ إلى لقاء مصالحة نظّمه النائب السابق عصام فارس بينه وبين عدد من أهالي بلدة كفرمشكي، ووافق ممثلو بلدة كفرمشكي آنذاك على انفصال سلساتا عن بلدتهم. ويوضح «بعد الموافقة أخذ فارس المرسوم إلى رئيس الجمهورية إميل لحود الذي وقعه». وتأكيداً على حق بلدته يقول: «حتى المطران اعترف لنا بهذا الحق، لكنه قال أنا لا أستطيع أن أجاهر بذلك أمام أبناء طائفتي كي لا ينقلبوا عليّ».
عن واقع البلدة اليوم يقول محفوظ «أصبحت سلساتا بلدة مستقلة يحق لها بمختار سيتم انتخابه عند أول انتخابات فرعية»، خصوصاً أن عضوية اثنين من سلساتا في بلدية كفرمشكي «سقطت عند صدور القرار في 26|11|2004». أما سبب عدم وجود بلدية فيعود إلى أنّ «كلّ أصوات القرية النازحة والموجودة هي 50 صوتاً».

أثر الانفصال

هذه هو الواقع الإداري والقانوني... لكن كيف أثّر هذا القرار على العلاقة بين البلدتين.
أولى الملاحظات شكلية، لكنها تثير حفيظة محفوظ، وهي تتعلّق بإزالة اللافتات التي تحمل اسم سلساتا على أيدي عدد من شبان بلدة كفرمشكي. وفيما يكتفي بوصف هذا العمل بـ«الطائش»، يبدأ بعرض الشكاوى الحقيقية الأكثر إيلاماً: «منذ انفصالنا عن كفرمشكي ونحن نتعرّض لمضايقات. كلما أخذنا معاملة لمختار كفرمشكي ليوقعها لنا بيعملّنا تحقيق ساعة». لذلك تقدّموا بشكوى إلى القائمقام الذي حوّل توقيع الأوراق وتصديقها إلى مختار بلدية مجدل بلهيص، وهذه أيضاً تسبب مشكلة لأن «الوصول إلى مجدل بلهيص يكبّد مشقّة، فالبلدة تبعد نحو سبعة كيلومترات عن سلساتا».
الأمر لم يقتصر على مضايقات مخترة كفرمشكي بل إن «البلدية بدأت بالتضييق علينا وعمدت إلى قطع المياه عنّا»، يقول محفوظ غاضباً. يتابع: «عندما كنا نسأل رئيس بلدية كفرمشكي عن هذا التصرف كان يعتذر منّا ويعمل حالو ما معو خبر، يفتح المياه عدة أيام ثم يعود ليقفلها».
هذا الوضع دفع أهالي سلساتا إلى مدّ المياه من جارتهم لبايا. ورغم إيجاد حلّ لهذه المشكلة فهذا لا ينفي الواقع: «بلدية كفرمشكي تعاملنا بشكل سيئ منذ الانفصال وهي لم تعد تُصلح الأعطال التي تصيب المرافق العامة في البلدة».
ويعلن: «عرضت عليهم أن نعيد الأمور إلى ما كانت عليه ونضع الملف جانباً ونرجع أحباباً وأصحاباً، لكنّهم ظلوا يستفزوننا ويضيّقون علينا». باختصار، يقول محفوظ: «أهل سلساتا كانوا نائمين وأهل كفرمشكي هم الذين أيقظوهمويكشف أحد أبناء سلساتا، أبو هيثم محفوظ، أن هذا التحرّك ليس الوحيد لاسترداد القرية، ويفصح عن تحرك جرى عام 63: «لكن أهلنا ما كان بإيدن شي لأنو السلطة كانت بيد المسيحيين»، ويشير إلى أن «أهالي كفرمشكي كانوا يقولون لهم أنتم لستم إلا فلاحين عند الأوقاف». وعندما تسأل الحاج أبو هيثم عن السبب الذي دفع أهالي كفرمشكي إلى ضم سلساتا يقول «فعلوا ذلك كي يستولوا على مشاع البلدة الذي يضمّ حرجاً وبركة مياه وللاستفادة من إيجار مركز بث للهاتف الخلوي».

كفرمشكي معترضة

على المقلب الآخر في كفرمشكي، رئيس البلدية بسام السيقلي يرفض مقابلة «الأخبار» قبل إجراء اجتماع للمجلس البلدي. «الأخبار» انتظرت الاجتماع الذي لم يُعقد بسبب انشغال رئيس البلدية. وفي المرة الثانية تمكنت من لقاء «الريس» الذي رفض الكلام على الموضوع، والسبب «عقد مؤتمر صحافي في 24 و25 كانون الثاني حتى يأخذ الموضوع حقه»، لكن المؤتمر لم يُعقد أيضاً.
وبالرغم من عدم إجراء «الأخبار» مقابلة مع السيقلي إلا أنه شدّد خلال دردشة معها على أنه «سيثير القضية في وسائل الإعلام لأنه لم يستطع الحصول على حقه لدى القضاء». ويتّهم سلساتا بقضم 11 ألف دونم من مشاع البلدة بعد صدور هذا القرار الجائر»، ويشير إلى أنه «ليست هناك قرية اسمها سلساتا، هي منطقة تضمّ ثلاث مزارع من بينها مزرعة النبي صفا التي أصبحت اليوم تدعى سلساتا»، ويرى أن «القرار الذي أصدره وزير الداخلية والبلديات حسن السبع ليس إلا إسفيناً بين مسيحيي القرية ومسلميها»، لافتاً إلى أنّ «أهالي سلساتا تمكّنوا من الحصول على هذا القرار لأن الثقل السنّي إلى جانبهم في المنطقة والبلد اليوم». ويرفض السيقلي كلام محفوظ عن إهمال منطقة سلساتا والتضييق عليها بعد صدور القرار، ويقول إنه «صرف من جيبه نحو عشرة ملايين ليرة على سلساتا»، ويضيف أن «كل محاولات الفرقة التي تحاول الحكومة الحالية فرضها علينا لن تنجح وسنبقى إخوة وأحباباً».



النبي صفا... حقيقة أم خيال

في قرية سلساتا مقام يدعى مقام النبي صفا، وقد عُرفت القرية باسم النبي صفا نسبةً للمقام، حتى إن عدداً كبيراً من أبناء القرى المجاورة لا يعرفها إلا بهذا الاسم. المقام قديم جداً، لا يعرف المسنون، وحتى آباؤهم، تاريخه. ويعتقد أهل القرية أنه يعود لأحد الأنبياء الذين لم تذكرهم الأديان السماوية.
كذلك يتداولون عدة أساطير مرتبطة بالمقام. يروي أبو هيثم محفوظ أن والدته كانت تضيء يومياً قنديلاً داخل المقام. وفي كلّ صباح كانت تجد القنديل مرمياً على الأرض. وفي أحد الأيام قالت لصاحب المقام «إن كنت نبياً فادفع عن نفسك الأذى». وفي اليوم التالي وجدت القنديل «مرمياً على الأرض وإلى جانبه ذئب ميت ومتجمد».
يذكر أن المقام لا يخص المسلمين فقط، فزوّاره من جميع الطوائف، وتلفت النظر داخله صور مار شربل وبعض الآيات القرآنية.