غسان سعود
كانت المدينة مفعمةً بالحماسة: مرةً، ترفع صور فوزي القاوقجي الآتي عام 1936 لتسجيل شبّانها الراغبين بقتال الإنكليز والصهاينة في فلسطين، ومرّات تستنفر طاقاتها لمواجهة الانتداب الفرنسي... ومرة تنزل لتعتصم انتصاراً لثورة الضبّاط الوطنيين في العراق (ثورة رشيد علي الكيلاني). والمدينة نفسها كانت تثور في وجه موزّعي القمح العفن خلال الحرب العالمية الثانية وتهتف: «عطونا قمح... بدنا قمح بلادنا، خبز معفن ما بناكل... خبز شعير ما بناكل». ومن تحرُّك إلى آخر، راح المكان ينبت أطفالاً يحترفون الانتماء إلى القضايا القوميّة... وكان عبد المجيد الرافعي من بين هؤلاء.
اليوم، تجده في منزله القديم عند طلعة الرافعيين في حي أبي سمرا، يحيط نفسه بصورة ياسر عرفات رافعاً شارة النصر، وصورة «شهيد الأقصى» صدام حسين مبتسماً له، وموسوعة «كتاب الأغاني» للأصفهاني، وبعض الآيات القرآنيّة. يبدو الرافعي بشعره الذي يكسوه الشيب، وحذائه الأبيض، كحارس هيكل أو قضية راح ضوؤها ينوس في مدينته حتى يكاد يختفي. لذا، احتل كلامه عن طرابلس بين الأمس واليوم مساحة الحديث. هنا فقط، يقول الرجل الثمانيني إنّه مشتاق إلى طرابلس... تلك التي كانت بعيدة كلّ البعد عن أي عصبية مذهبيّة.
نسأله عن التقدم في السنّ، فيرد ببسمة وببيت من الشعر: «عمري عن الثمانين إن مضى جارياً/ والروح باقية على العشرين». كيف؟ بالإيمان بالله والاتكال على مبادئ تشجّع العمل الدائم وتحرير فلسطين... مبادئ تفتّحت عليها مداركه في المدينة، وفي منزل كان الوالد فيه يهتم بالقضايا القوميّة، وفي مدرسة «النجاح الوطنيّة» التي كان يفيض بعض معلميها بالحماسة الوطنيّة.
بداية الصعود كانت في سويسرا التي وصلها طالب طب، بعدما رُفض طلبه في مصر بسبب وصوله متأخراً إلى الكلية. وسرعان ما وجد نفسه ــــ عشيّة تقسيم فلسطين عام 1947 ــــ يؤسّس مع مجموعة من زملائه «رابطة الطلاب العرب» ARABIA التي انتُخب أمين سر لها لثلاث دورات، ثم رئيساً لدورتين... وخلفه الرئيس أمين الحافظ بعد تخرّجه وعودته إلى طرابلس. هذه العودة (1953) كان يفترض أن تكون موقتة، ريثما يكتسب خبرةً في المستشفى الخيري الإسلامي في طرابلس قبل التوجّه للعمل في السعودية من أجل سدّ الديون التي ترتّبت على الوالد نتيجة تعليمه في جنيف، إلّا أنّها صارت دائمة بعدما أقنعه الطبيب هاشم الحسيني بالبقاء واعداً بزيادة محترمة على الـ 250 ليرة التي كان يتقاضاها. هكذا بقي في «الإسلامي» حوالى أربع سنوات.
لكن كيف وصل إلى حزب البعث؟ هنا يروي بالفصحى: «بعد استقراري في طرابلس، بدأت مع أصدقاء بالبحث عن وسائل إنعاش مجتمعنا، فانتسبت إلى رابطة متخرّجي كلية التربية والتعليم، وجمعية «الخدمات الاجتماعية»، وانتخبت أمين سر في الحركتين. لكن، مع بدء العدوان الثلاثي عام 1956، ازددنا حماسة لإيجاد متنفّس، فوزّعنا دساتير الأحزاب على بعضنا بعضاً. وكان نصيبي حزب البعث. لاحقاً، في 15 أيار (مايو) 1957، كنت عرّيف مهرجان في مناسبة النكبة، خطب خلاله الشيخان نديم الجسر وحافظ المنذر إلى جانب حميد فرنجيّة وسعيد عقل. وفور انتهائنا، دعاني أحد الحاضرين إلى اجتماع بعثي تعارفي في الليلة نفسها في منزل حسان الموسوي، حضره موريس صقر وجبران مجدلاني وعلي فخرو. هكذا بدأت مسيرةً مع «البعث» مستمرةً منذ نصف قرن. وفي 1958، انتُخبتُ عضواً في القيادة القطرية، فعضوَ قيادة قوميّة عام 1964، وفي 1968، انتخبني رفاقي في الموقع الذي ما زالت أشغله».
يرفض الرافعي الكلام عن بعث عراقي وبعث سوري، موضحاً أنّ ثمة مَن احترم الشرعيّة الأساس، وثمة مَن قرّر أن ينتفض عليها. بهذا المعنى، هو بعثي عراقي قبل نشوء البعث العراقي. يستفيض في الشرح عن اضطراره إلى استحداث حزب «طليعة لبنان العربي الاشتراكي» الذي ينهل من عقيدة البعث قبل عامين ونصف عام، وذلك بعدما حلّت السلطات اللبنانيّة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يرأسه، لإعطاء الرخصة لحزب يحمل الاسم نفسه، لكن يتبع النظام السوري (سبق للبعثيين السوريين أن تقدموا بعلم وخبر لمنظمة حزب البعث).
يبدو لافتاً أنّ عمر تجربته مع الانتخابات النيابيّة من عمر انتمائه البعثي. ففي اللقاء الأول بالبعثيين، طلبوا منه الترشح للانتخابات النيابية. وبعد تشاوره مع أصدقائه في المدينة، قرروا أن يترشح منفرداً في دورة 1957، باسم القوميّة العربيّة والسياسة التحرريّة، في وجه لائحتي رشيد كرامي ومحمد حمزة فنال 2235 صوتاً (مقابل: 15221 للأوّل، و10985 للثاني). ما شجّعه على تكثيف حركته الاجتماعية والسياسيّة. فوقف في قلب العاصفة العسكرية أثناء ثورة 1958، وأنشأ مستوصفاً يداوي المصابين قبل نقلهم إلى المستشفى الذي استحدثه في أبي سمرا. وسرعان ما صار المستوصف ستة، غطّت أحياء المدينة، فتوسّعت رقعة معارفه. وقفز عدد الأصوات التي حازها منفرداً إلى 14052، لكنه حُرم النيابة لمصلحة صديقه الرئيس أمين الحافظ (كان على لائحة الرئيس كرامي). وتكرّرت الخسارة عام 1968، قبل أن يخرق لائحة كرامي في دورة 1972، ويسبقه بعدد الأصوات. وبعد غياب ربع قرن عن الحياة النيابيّة واعتبار كثيرين أنّ زمن البعثيين ولّى، حصد 74860 صوتاً في معركة كان سيّدها من جهة المعارضة بين زعماء طرابلس.
من جهة أخرى، لم يصلح الدهر ما انقطع بين الرافعي والإسلاميين المتشددين، وخصوصاً أهل حركة التوحيد. بعد حوارات محدودة، حاول التوحيديون السيطرة على المدينة، وإعلان إمارات في الأحياء: «افتعل التوحيد حادثاً مع أحد أنصار البعث في المدينة، وخلال ربع ساعة، سيطر التوحيديون على مراكز البعث في طرابلس. ورغم توسط حركة «فتح»، تكرر الهجوم مساءً». ما دفع الرافعي إلى اللجوء سنتين إلى بغداد. ومع اكتمال السيطرة السوريّة على لبنان إثر اجتياح القصر الجمهوري عام 1990، اختار الرافعي المنفى الطوعي، بعدما تحوّل اعتقال «البعثيين العراقيين» موضةً للأجهزة السوريّة، وظلّ يتنقّل في الخارج للقاء الجاليات اللبنانيّة 13 عاماً.
بعد عودته إلى طرابلس عام 2003، كان الرجل قد تغير، حاله في ذلك حال المدينة التي غابت عنها وجوه كثيرة ما زال يغصّ كلما تذكّرها. أما الأصدقاء الذين ما زالوا في «عز شبابهم»، فكثيرون أيضاً، بعضهم يزوره في المكتب ـــ المنزل، وبعضهم الآخر يلاقيه في مقاهي المدينة، وبينهم من يتردّد معه إلى البحر، مرةً كل بضعة أسابيع. بالنسبة إلى المناضل البعثي القديم، ليس هناك من حياة اجتماعيّة يمكنها أن تكون مفصولة عن الحياة السياسيّة... ونادراً ما يقوم بزيارة إلى مقهى أو منزل ولا تتحوّل «الجَمعة» إلى لقاء سياسي. لا يمكن أن تنتهي الزيارة طبعاً، من دون وقفة مع صدام حسين. الرجل ـــ عاصمة طرابلس، يهوى إقناع كل مَن يلقاه بعظمة صدام، «حتى في الصورة التي حاول الأميركيون تظهيره بها في آخر أيامه». هكذا هم المناضلون القدامى، تعميهم المثل أحياناً عن رؤية الواقع السافر بفجاجته، ويشغلهم الحنين عن القيام بجردات الحساب اللازمة. لكن ما هم؟ الماضي هو الماضي، والرافعي ينظر الى الأمام حين يختار المواجهة والمقاومة. لذا تراه يختم اللقاء بالشعر، كما استهلّه:
«أنا لا أناضلُ كي أكونَ معظماً/ أو كي أضافَ الى الكرام عديدا إني أناضلُ كي أحرّرَ أمتي/ أو لا، فأطمحُ أن أكون شهيدا»


5 تواريخ

1927
الولادة في بيت مشغول بالقضايا القوميّة في طرابلس

أيار (مايو) 1941
تظاهر للمرة الأولى تأييداً لثورة الضباط الوطنيّين في العراق في وجه الإنكليز. بعدها بسنتين شارك في تظاهرة الاستقلال في طرابلس، وقتل الفرنسيون أمامه أحد أصدقائه (أمين هاجر)

1957
حضر أول اجتماع بعثي

4 أيار (مايو) 1972
حلّ أول في انتخابات طرابلس النيابيّة متقدّماً على الرئيس رشيد كرامي

2003
عاد إلى لبنان بعد نفي طوعي بدأ عام 1990