في لبنان سبع قرى لا يزال أهلها مشتّتين. هونين منها. حوّلها المحتل إلى مستعمرة لكنها ظلت ذاكرة يلملمها الشباب من أفواه المسنّين، ومرجعاً يركنون إليه، في محاولات للمّ الشمل، ليس آخرها حفل تخرج تكريمي

رنا حايك
«جدّي معه جنسية لبنانية من دولة لبنان الكبير. خيّو معو جنسية فلسطينية» يقول رفيق حدرج، ابن بلدة هونين الجنوبية، التي لم تُحرَّر سوى بعض مشاعاتها عام 2000، بسبب «التباس حول الحدود» لا يزال غير محسوم حتى الآن. يومها، قصد بعض أبناء القرية الحدود المحررة حديثاً في جولة، تعرّف خلالها أحدهم إلى قريته المدفونة تحت مستعمرة مارغريوت الإسرائيلية، فلمّ عن تراب المشاع الصغير الباقي منها، الذي احتفظ به لبنان، قطعة كرتون مهملة وكتب عليها «هونين ترحب بكم». فالتاريخ حمّال أكاذيب، والإسرائيلي المحتل يعتمد منذ اغتصابه الأرض منهجية طمس التاريخ ومعالم الجغرافيا. في لعبة الاستقواء الفاجرة هذه، يصبح التشبث بالذاكرة والنضال لنقلها من جيل إلى جيل هو السلاح الأقوى في مواجهة تشويه الحقائق والحقوق.
البلدة التي تشتت أهلها بعد نكبة 48 كانت مركزاً تجارياً ممتازاً في قضاء مرجعيون بين لبنان وفلسطين، إلا أن الأهالي ليسوا كلهم تجاراً. بعضهم كان من الفقراء، بعد حلول النكبة والتهجير، ما دفعهم إلى تفضيل الجنسية الفلسطينية التي ترشّح حاملها لنيل «الإعاشات» والمساعدات. منذ ذلك الحين، بدأت الهوية تتفتت. استقر الأهالي في مختلف المناطق اللبنانية على شكل تجمعات: من النبعة في بيروت إلى النبطية وانصار ودير الزهراني في الجنوب والقلعة وبعض بلدات البقاع، فقلّ تواصلهم. «قضيت أربع سنوات على مقاعد الدراسة مع زميل لم أكن أعرف أنه ابن قريتي، إذ إن أحاديثنا لم تتناول يوماً أصولنا»، يروي حدرج، مضيفاً «التقيته بعد التخرج، عن طريق الصدفة البحتة، في إحدى المناسبات». من قصة كهذه، وقصص أخرى مماثلة، أتت الفكرة: «يجب لمّ الشمل»، قال أحدهم. كانوا حوالى 12 شاباً حين تداعوا للقاء عام 2007، وقرروا إعادة بناء أواصر قربى شتّتتها الجغرافيا وفكّكها الاحتلال. «بدأنا بزيارة المسنين والمرضى قبل أن نخسرهم» يقول حدرج. بحثوا عنهم، بين أقاربهم ومعارفهم، وفي مناسبات العزاء التي ظلت تجمع بعض الأهالي في حسينية البرجاوي في منطقة الجناح. زاروهم متعطّشين لروايات الضيعة وذكرياتها، وسمعوا من أحدهم أن «العنب موصوف بضيعتنا»، ومن آخر أن «الخيرات كانت تعم بالبيوت بمقايضة المحاصيل مش بالبيع والشرا بس». بدأت الفكرة تتبلور، محمَّلة بهمّ إنساني محض لا مآرب له سوى لمّ شمل أهل القرية الواحدة، لأن «الأرض بدها ترجع، وما مننسيها». وحتى هذه اللحظة، تعمل المجموعة من دون «رئيس ولا مرؤوس»، لاقتناع أفرادها بأن مأسسة مبادرات كهذه قد تقتلها غرضية القيمين عليها مهما حاولوا الترفع عنها. لا أحد من مجموعة «شباب من هونين» يملك لقباً، باستثناء واحد عُيّنَ أميناً للسر لغرض عملاني هو توثيق محاضر الاجتماعات.
على مدار سنوات خمس، استمدّ الشباب من زيارتين أسبوعياً لمسنين تاريخ قريتهم، واستغلوا تلك الزيارات للتعرف إلى الأجيال الجديدة. سجلوا بعض الجلسات والمقابلات على الفيديو، وأعدوا تقريراً قصيراً عن القرية التي لم يبق من معالمها الأصلية سوى القلعة.
أصبحوا اليوم 30 شاباً، في دليل تلفونات كل منهم على المحمول أكثر من 700 رقم تلفون لأشخاص من قريته، تصلهم دورياً رسائل باسم «شباب من هونين» تطلعهم على مواعيد الاجتماعات في مناسبات رسمية وخاصة تنظّم دورياً. عاماً بعد عام، كانت المبادرة تتبلور، بإمكانات مادية قليلة نتيجة حرص الشباب على الاستقلالية المادية، وبحسب ما يسمح لهم وقتهم إذ إنهم موظفون أو طلاب، إلى أن تكللت جهودهم العام الماضي بنشاط من شأنه جمع العدد الأكبر من أبناء القرية. فقد نظّم الشباب حفلة تكريم للناجحين في الامتحانات الرسمية، رعتها مدرستان، إحداهما قدمت منحة والأخرى مبلغاً بسيطاً من المال، ليغطي المنظمون باقي

حتى الآن توصّل الشباب إلى لمّ شمل 700 فرد من أهالي قريتهم

التكاليف بأنفسهم، من جيوبهم. «أعددنا إعلاناً متواضعاً غير مكلف، وزعنا الملصقات في أماكن تجمعات أهل القرية، كما وزعنا أوراقاً صغيرة على أبواب الحسينية، ندعو فيها الأهالي إلى تسجيل أسماء أبنائهم الناجحين لتكريمهم. حتى إننا كنا نطلب من العريف في مناسبات العزاء الإعلان عن الحدث من على المنبر». في النتيجة: كرّم الحفل 97 طالباً، وضم 450 من الحضور الذين لم يغادروا فور انتهائه، بل ظلوا فترة يتعرفون إلى المزيد من أبناء قريتهم. نجاح حثّ المنظمين على إعادة الكرّة هذا العام. وبعدما أقاموه العام الماضي في قاعة الجنان على طريق المطار، كانت نيّتهم هذا العام إقامة الحفل في مشاع القرية الواقع تحت سلطة الدولة اللبنانية. هناك، في قطعة التراب الباقية من ماضي أجدادهم وتاريخهم، كانوا سيسلمون شهادات اختتام المرحلة الدراسية، ومعها صكوك الإصرار على العودة، لشباب يتوقعون منهم أن يكملوا مسيرة المطالبة بحقوقهم في الوطن والأرض. كانت الوقفة في ذلك البيت المهجور الباقي مما كان ذات يوم «بلدهم» كما يسمون القرية لتتخذ بعداً رمزياً فائقاً في الدلالة. إلا أن الهواجس الأمنية حالت دون ذلك، و«ما فينا نخاطر بأرواح الناس» كما يقول حدرج. في النهاية، سيقام الحفل في قاعة الجنان، لكن هونين ستكون موجودة. ومعها عهد قطعه شبابها بمعاندة النسيان والإصرار على استردادها من بين أيدي المحتل الغاصب.


حفل التخرج فرصة للتعارف

عند الرابعة من بعد ظهر غد، يجتمع في قاعة الجنان نحو 90 طالباً من أبناء هونين الناجحين في الامتحانات الرسيمة والجامعات، لتسلّم دروع تمنحهم إياها «شباب من هونين». «هذا العام سنكرّم أيضاً طلاب الجامعات»، يقول أحد المنظمين، حسين وهبة (الصورة)، مضيفاً « LIU هي راعية الاحتفال، وستقدم منحة جامعية إلى حائز أعلى معدل في البكالوريا، إضافةً إلى منحتين دراسيتين لصاحبي أعلى معدلين في البروفيه».