ما إن تلقي شمس الصيف بأشعتها الذهبية على شاطئ مدينة صور ومينائها، حتى تتكشف عن زنود شبابها وشوم مختلفة الأشكال والأحجام، تصبح علامة فارقة تميز أبناء الشاطئ عن ضيوفه الطارئين
صور ــ كامل جابر
لم يكن محمد بحر قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره حين «دق» قلباً وهلالاً على كتفه الأيمن ويديه، وقبل أن يبلغ السابعة عشرة، أتبع الوشم الأول بآخر ضخم على زنده الأيمن ممهوراً بالحرف الأول من اسمه باللغة الأجنبية. اليوم يبلغ محمد التاسعة والعشرين. «عندما وشمتها كنت شديد الحماسة لمجاراة رفاقي ممن سبقوني، اليوم أتمنى نزعها، ولكن، فات الأوان»، يقول.
يجمع العديد من شبان مدينة صور على أن الشاطئ والبحر وما لهما من انعكاس على سمرة أجسادهم، هما اللذان يغريانهم لتزيين ظهورهم وزنودهم بالوشم «للتباهي بعضهم أمام بعض والتنافس في ما بينهم في الوقت ذاته»، كما يقول محمود صقر، الذي أخفى عن ذويه وشمه مدة ستة أشهر كاملة. «أصحابي كلهم سبقوني ووشموا أجسامهم في أماكن مختلفة، شعرت كأنني نكرة بينهم، فاستجبت لنداء الوشم». تردد محمود في رسم وشم ودقّه على صدره لجهة القلب «خفت وتراجعت، لأن الوشم الذي وسمته على كتفي سبب لي آلاماً حادة، علماً بأنني انتظرت فصل الشتاء للقيام بالعملية كي لا أعاني التهابات قد تصيبني جراء الوشم صيفاً».
تبدلت نظرة بعض الأقارب تجاه محمود عندما شاهدوا الوشم على جسمه. «بعضهم قال لي: كنت آدمياً (عاقلاً) فما الذي بدلك؟ وهو يعني بذلك أن «الشبيحة» فقط هم الذين يوشمون أجسادهم، لكن أجساد معظم شباب مدينة صور موشومة وإن بنسب مختلفة، حتى أن عدوى الوشم انتقلت إلى بلدات الجوار» كما يؤكّد محمود، لافتاً إلى أن أحد رفاقه وشم جسده كله، حتى أنه «لم يترك زاوية فيه، حتى في الأماكن الحساسة» على حدّ قوله.
يبلغ علي الثانية والعشرين، هو من بلدة برج الشمالي المحاذية لمدينة صور، من جهتها الشرقية. قبل أربع سنوات دقّ وشماً لرسم صقر (نسر) على كتفه، ثم أتبعه بوشم آخر «لاقيت معارضة كبيرة من شقيقي، وخصوصاً بعدما أصبت بالتهابات في مكان الوشم». إذاً، لمَ الإقدام على تلك الخطوة؟
عند أطراف شاطئ صور، لجهة الخيم البحرية، يركن معروف بيضون سيارته، التي تحمل لافتة «معروف بيضون للوشم». هناك، يقوم الرجل بعمليات وشم للشبان، ولكن «هي رسوم مؤقتة بمادة الحنّة (الحناء)، يتراوح عمرها على الجسد بين خمسة أيام أو أسبوعين، وحتى حدود الشهر»، كما يشرح معروف. «يأتيني أحد الشبان ويعبّر عن رغبته برسم نسر كبير على ظهره، تكلفه هذه العملية نحو ثلاثين دولاراً أميركياً». يمتنع معروف عن رسم الوشم على أجساد الصبايا والفتيات لأنه «ملتزم دينياً»، كما يؤكّد. كما يمتنع عن دقّ الوشم بالإبرة، رغم أنه «كنت قد رسمت وشماً على جسدي وأنا في عمر 14 سنة، اليوم أشعر بالندم، لذلك أكتفي برسم وشوم بمادة الحناء للشباب الذين يقصدونني» كما يقول.بات اسم محمد عليان في برج الشمالي معروفاً بين أسماء الشباب الموشومين في مدينة صور وجوارها. يشرح عليّان كيف أن «موسم الصيف هو موسم استعار الرغبة في الوشم» لأنه «عندما تتعرى زنود الشبان وصدورهم، يتبدى ما عليها من وشم، وتعم الغيرة بين الشبان غير الموشومين». كانت عملية الوشم تتم بالسر وكانت الفكرة مرفوضة سابقاً، اليوم يعود القرار للشاب نفسه ولرغبته، وخصوصاً بعدما تطورت عملية الوشم واتسعت أشكالها وألوانها».
قد تبدأ تكلفة الوشم الواحد من مبلغ عشرة دولارات، ثم ترتفع صعوداً حتى تتجاوز أحياناً مئات الدولارات. وإذا كان عليان لا يحصي عدد الشبان الذين وشم لهم، في صور ومنطقتها، فهو يؤكد أنه لا يوشم لمن هم دون الثامنة عشرة «أنا لا أنصح بإجرائها قبل فترة المراهقة، لأن أي رسم في سن مبكرة قد يتحول إلى تشويه مع نمو الجسد، إذ يبدأ بالانتشار على الجلد وتبهت ألوانه مع الوقت». يرفض عليان دق الوشم في الأماكن الحساسة من الجسد، كالعنق مثلاً، لكن «لا مانع لدي من دقها على الزند أو الكتف أو بطة القدم، علماً بأن الطلب على وشم الحناء أصبح اليوم أعلى من الطلب على دقّ الإبر، فهو وشم جميل وغير مكلف مادياً ويمكن صاحبه استبداله حينما يشاء».

شباب صور يتباهون بالوشم ويتنافسون في ما بينهم

وصلت الجرأة بفادي بحر، من صور، إلى وشم فتاة عارية الصّدر على كتفه الأيمن. فادي ولد في بيت يحاذي شاطئ البحر في صور، لذلك، من البديهي أن يمضي معظم أوقاته بين البحر والشاطئ. يقول: «مذ كنت صغيراً، بدأت أعاين أشكالاً وألواناً من الوشم تزين صدور الشباب أو ظهورهم، أكتافهم، زنودهم؛ لكن الشائع بيننا أن هذه الرسوم محرّمة على الأطفال والفتيان قبل بلوغهم سن المراهقة». فعندما اختار فادي رسم الفتاة العارية، كان قد تجاوز الثامنة عشرة، «اختياري هذا الرسم جاء من باب التحدي والمراهقة في آن معاً، على قاعدة أنه رسم ليس إلا، وعلى اعتبار أنني أمتلك من الجرأة ما يفتقر إليه كثيرون من أترابي». يتوقف عن الكلام، ثم يردف ممازحاً: «تقترح عليّ زوجتي إكمال الرسم، حتى تكتمل الصورة». باعتقاد فادي، «الفاس فات بالراس». والقرار الذي اتخذه مراهقاً وجعل كتفه مسرحاً له لم يعد يمكن العدول عنه، إلا بعملية قد تشوه أكثر مما تجمّل. في النهاية، لم يعد يكترث له كثيراً، ففي أحيان كثيرة «أنسى ما وشمته على كتفي، وإن تذكرت، لا يزعجني ذلك كثيراً، لأنني لست حالة استثنائية وبحر صور وشم جميع أبنائها من قبلي».


كلمة السّر ذاكرة واحدة

في أوقات الفراغ، ينصرف بحارة مدينة صور وصيادوها لمعالجة ثقوب مراكبهم وشباكهم. يجلسون في مراكبهم، بمحاذاة الشاطئ، صدورهم وظهورهم مكشوفة لشمس تزيد من حدة سمرتها يوماً بعد يوم. جميعهم يحملون علامة فارقة أهداهم إياها البحر، وسنوات المراهقة التي لا تمحى آثارها بسهولة. معظمهم تزوجوا وأنجبوا، وودعوا سنوات الطيش والشباب، لكنهم لا يزالون يحتفظون برحيقها على أجسادهم، وكأنها كلمة سرّ تجمعهم.