أنسي الحاجأفهم ـــــ وغالباً ما كنته ـــــ مسيحيّاً يتألّم من دينه ويشكّك فيه ويهاجمه. كذلك البوذي واليهودي والمسلم والماركسي وسائر المنتمين. ولكن كيف يُشكّك ويكفر ويظلّ يشكّك ويكفر إذا كان في مجتمع أكثريّته الساحقة من غير دينه؟ كيف يفعل دون أن يبدو مداهناً للأكثريّة؟ كيف يفعل، بدايةً، وكونه أقليّة يؤهّله، بحكم ردّ فعل الاحتماء والحماية أو الشهامة، لمسايرة غرائز انتمائه المذهبي أو الطائفي أو العقائدي أيّاً يكن؟
هذه العقدة، التي قد أعانيها كمسيحي في محيطي الإسلامي، يبدو أن آخرين من مذاهب أخرى لا يعانونها في الغرب، وتحديداً في صناعة السينما الغربيّة. إلّا إذا لم يكونوا من الأقليّات بل من أكثريّات مختلطة بأقليّات، وهذا هو الأرجح خصوصاً في الولايات المتحدة. وإلّا، وهذا هو الأهمّ، إذا كانوا أقلّية، عنصريّة أو دينيّة، تمارس ضغينتها ضدّ أكثريات لها عليها ثارات أرضيّة وسماويّة.
لماذا هذا الحديث الآن؟ لأنه لا يمرّ يوم إلّا تعرض الشاشات الصغيرة (وطبعاً قبل ذلك الشاشات الكبيرة) أفلاماً من المستحيل أن لا يكون أحدها، على الأقلّ، موجّهاً، بطريقة مكشوفة أو مبطّنة، ضد المسيحيّة عموماً وضدّ الكاثوليكيّة على الأخصّ.
تُدغدغ هذه الأفلام مشاعر الانتهاك والتجديف عند الراغب، وتضيف إلى الملحد قرائن، وتزرع الشكّ في البريء، وتزعزع، مرّة بعد مرّة، إيمان أشدّ المؤمنين إيماناً. ولم تترك وسيلة ولا ذريعة لإظهار الكنيسة الكاثوليكيّة بؤرة فساد في كلّ الاتجاهات إلّا استعملتها، والأصحّ استنبطتها، وبينما كانت هوليوود، مثلاً، في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين لا تزال تراعي على الأقل بعض الشكليّات في مقاربتها لهذه الموضوعات، ولو كان كل ما يتعلّق باليهوديّة ماضياً وحاضراً هو الهمّ الأول والمقدَّس الدائم لديها، فقد جنحت السينما الغربيّة منذ السبعينات جنوحاً تصاعديّاً صارخاً في إنتاج الأفلام الكارهة للكنيسة خاصة وللمسيحيّة عامةً، وأشدّها ذكاءً، ربّما، تلك الأفلام التي توهم الجمهور أنها تستند إلى أسس تاريخيّة. وفيما كانت نوعية هذه السينما هي العنصر البارز باتت كميّتها الهائلة الوتيرة هي الظاهرة الأبرز، وآخر الدارجات فيها مشاهد القتل والصراع الناري داخل الكنائس وما يرافقها من سفك دماء وتحطيم صلبان وأيقونات ومذابح، فضلاً عن شرشحة الرهبان والراهبات والأساقفة (وقد باتت تهمة التحرّش بالأولاد مرادفة لهم بفضل الإعلام) بمَن فيهم حَبْرهم الأعظم، وصولاً طبعاً ودائماً إلى المسيح وقيمه.
■ ■ ■
أكتبُ بتردّد. مَن يعبأ بموضوع كهذا؟ وهل تقترف السينما ذنباً إنْ هي تصدّت للتابوهات وأعملت فيها تشنيعاً؟ أليس هذا ممّا يثقّف ويسلّي؟ بل أليس هذا مدعاةً للإعجاب؟ والأسخف، أليس كاتب هذه السطور هو أحد الذين تسلّقوا على ظهر مناوأة أمثال هذه المحظورات؟
صحيح. السؤال هو فقط: لماذا لا يتجرّأ هؤلاء الأبطال إلّا ضدّ جهة واحدة؟ لماذا لا أحد في هذه السينما يتصدّى لتابوهات الأديان والمذاهب والعقائد الأخرى؟ ولماذا لا يرى هؤلاء في المسيحيّة الكاثوليكيّة إلّا مكاتب التفتيش والحروب الصليبيّة وشذوذ الكَهَنة الشاذين وتخلّف رهبان القرى؟ لماذا ولا مرّة شاهدنا فيلماً يروي قصّة مضيئة من تاريخ هذا الوحش الذي يُراد إظهار الكنيسة به وتثبيت هذه الصورة إلى الأبد في الأذهان؟ وهل المسيح هو إمّا هذا الغليظ البليد أو المازوكي المهووس أو الساحر الأُلعبان الذي تتناوب على تجسيده أفلام الغرب؟
أشعر، مرّة أخرى، أنّني أكتب لغةً خرساء وأُرسلها إلى عالمٍ أعمى. إلى لا أحد. ولكنّه ثقلٌ ضاغط ولا بدّ أن أتخلّص منه.
■ ■ ■
يستطيع المراقب أن يقول إن أبلغ دليل على تسامح الكنيسة والمسيحيّين عموماً هو أن صوتاً واحداً لم يرتفع باستنكار هذه الحروب المستمرّة لا سينمائيّاً فحسب بل أدبيّاً وفلسفيّاً وإعلاميّاً، مباشرةً ومداورة، والعمل المنهجي المسخّر لجميع الإمكانات من أجل إلصاق أبشع التُهم والرذائل بهذا الدين وبمؤسّسه ورموزه. ويستطيع مراقب آخر أن يقول العكس، أن يقول إن هذا الاستسلام التام لتلك الحروب هو الدليل القاطع على انحطاط عَصَب الفكر المسيحي واكتفاء الكنيسة بدور المتَّهَم الذي ينبغي له أن يشكر ربّه لعدم التشهير به أكثر من ذلك.
لكنّ المسيحيّة، ولو روّعتنا الدعاية، ليست هذه التي تصوّرها لنا الكتل الأنتي كاثوليكيّة الأنتي أرثوذكسيّة الأنتي روح المسيحيّة عموماً. تاريخ المسيحيّة مليء بالأخطاء تخلّلته صراعات أهليّة معظمها أحمق أو ذو خلفيّات وأهداف سلطويّة لا علاقة لها بالمسيح، ولطّخته ممارسات ظلاميّة وانحرافات يعرفها القاصي والداني، ولا يخلو دين ولا معتقد من أمثالها، زادت أو نقصت. لكنّ تاريخ المسيحيّة، والمسيحيّة الكاثوليكيّة على وجه الحصر، عامرٌ بأضخم المساهمات الحضاريّة، وإذا كان لا يُحكى عن عصور مظلمة إلّا يُقرن بتخلّف فكري كنسي ما، لا يحكى عن عصور النهضة إلّا يُقرن بدور الكنيسة والمسيحيّين عموماً، بمَن فيهم الذين لم يمارسوا طقساً وبمَن فيهم المشكّكون والملاحدة.
لو لم تكن أعمال الرسّامين والنحّاتين والمعماريين والمؤلفين الموسيقيّين والشعراء والأدباء والفلاسفة (وعلى رأسهم المشككون والملحدون) والمؤرّخين واللغويّين والمعلّمين والنُسّاك والشهداء مدوّنة في التاريخ وماثلة في يوميّاتنا إلى الساعة لظننّا، ونحن نشاهد أفلام الغرب، أننا كنّا نحلم، وأن المسيحيّة ليست سوى كذب وخداع وخرافة وبشاعة، وأن الحضارة لم يَبْنِها إلّا ضحايا المسيحيّة.
■ ■ ■
أسوأ المتعصّبين هم الذين يجعلونك تعتقد أن المتعصّب هو غيرهم وأنهم هم وُلاة التحرير. والحقيقة أن العبوديّة الأشدّ فتكاً هي الحقد. وشرّ ما يكون الحقد عندما يتسلّط على التوجيه التربوي والفكري والفنّي والإعلامي ويمعن منهجيّاً في مصادرة التاريخ وتشويه الحقائق. السلاح الأكبر ليس الذرّة ولا النفط ولن يكون الماء بل هو، دائماً، الإعلام. كان في ما مضى يُسمّى التثقيف، أو التوجيه، أو تدوين التاريخ، ويكاد اليوم يصبح وقفاً على التلفزيون والسينما والإنترنت، وخلفها تجرجر الكتب والجرائد أذيالها لاهثة. لقد بات الإعلام في قبضة فئتين تجمعهما مصالح متشابهة: فئة الانتهازيين وفئة أصحاب الثأر. ولا مواجهة لغرضيّته وتحامله إلّا بالتوعية.
■ ■ ■
إذا كانت المسيحيّة كمؤسسة قد ضاقت أحياناً وربما غالباً بعُصاتها الداخليّين فرحابُ الروح المسيحيّة لم تضق ولن تضيق. المسيحيّة هي بولس كما هي نيتشه، وهي لاهوت يوحنّا الذهبي الفم وأغسطينوس وتوما الإكويني كما هي لاهوت تيلار دو شاردان ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينيّة. المسيحيّة هي دوستيوفسكي العبثي وهي دوستيوفسكي الصوفي. المسيحيّة هي أفرام السرياني كما هي بودلير وهي السلام كما هي القلق المبرّح والتيه والتناقض. أنتجتْ وأُعيد إنتاجها. ولعلّ أقوى عناوينها، بعد المحبّة، أن الإلحاد، في الفكر الغربي على الأقلّ، لا يزال يُقاس بها.
هذه الكلمة ليست أكثر من حرقة ألم حيال التمادي في تزوير الحقائق حيث كنّا، في مثاليّتنا الساذجة، نحسب أن كلَّ شيء قابل للتدنيس إلّا الحقيقة.


«لكنّي أعود»

نحن سكون في حركة كبرى أم حركة في سكون أكبر؟ إذا قسنا على اللغة، «المحرِّك» في العربيّة يُكنّى به عن اللّه، والاستنتاج بديهي: الكائنات «شخوصٌ وأشباح تمرّ وتنقضي» كما يقول الشاعر، و«تفنى جميعاً والمحرِّكُ باقِ».
لكنّ اللغة تتناقض والغريزة أحياناً، والغريزة تُصوِّر للمرء أن اللّه، بسرمديّته، هادئٌ الهدوء كلّه. الحياة البشريّة، بل حياة كلّ ما هو حيّ في الطبيعة، انعكاسٌ لطاقة تبدو لمخيّلة هذه المَنْمَلة التي هي الأرض وسكّانها، تبدو، في لاحدودها ولانهايتها، مُطْلَقَة السكون، وكأن المصدر لا يشبه الفرع، على عكس ما تقول التوراة إن الله خلق الإنسان على صورته. حَرَاك الإنسان نفحةٌ من سكون اللّه لا امتداد لحراكه. «المحرّك باقٍ» لأنّ طاقته لا تنفد، وطاقته لا تنفد لأنّه «نبع الينابيع» كما تغنّي فيروز. المحرّك يُحرّك انطلاقاً من صلابة جذوره المطْلَقة، الجذور التي لا أوّل لها ولا آخر. الجذور لا تتحرّك. وحدها الأوراق (وأحياناً الأغصان في الشدائد) تذهب وتعود، ترتعش وتتبلّل، تخضرّ وتَصْفرّ. أيّتها الأوراق والثمار، أسفاً عليكِ، تأخذين خيرَ المياهِ وروحَ الرياح وتلمعينَ كالعرائس المبتهجة، وفجأةً إلى التراب. لا أسألكِ كيف ترضين بانطلاء الخدعة عليكِ، بل أسألُ صانعيكِ بأيّ قلبٍ يقدرون أن يكتبوا لكِ هذا المصير؟
وأسمعكِ تصرخين بي شامتة:
ـــ لكنّي في موسمي أعود! وأنا مَن يعود، لا شَبَهي! لا شَبَهي ولا ذكراي! لا شَبَهي ولا ذكراي ولا خلودي! أنا! أنا بنفسي أعود، أيّها المخلوق على صورة اللّه...