محمد شعير
ثلاثون شهراً و17يوماً قضاها الروائي مسعد أبو فجر متنقّلاً بين معتقلات المحروسة، حتّى استقرت به الحال في الزنزانة «الرقم 7» في «سجن أبو زعبل». لم تكن هناك تهمة محدّدة ضدّه، بل 22 حكماً بالإفراج... وكانت هناك ابنة صغيرة لم تكن قد أكملت عامها الرابع، ومشاريع روائية كثيرة. مشاريع أنجز بعضها، وجرى اعتقالها يوم اعتقال صاحبها عام 2007، ولم يُفرَج عنها بعد، رغم الإفراج عنه خلال الشهر الماضي.
صغيرته رناد التصقت به، ونحن في المقهى، لا تريد أن تفارقه. طلبت منه أن يحملها على كتفيه. يسمّونها في البدو «لعبة الجمل». حملها بالفعل وسار قليلاً، ثمّ تنبّه إلى أنّ «الجمل يحتاج إلى صحراء ليتحرك بحريته». رناد لم تكن تتأخر عن زيارات والدها في المعتقل. كانت تسأله في كلّ مرّة: «متى ستأتي؟» وكان يجيبها: «قريباً». وفي مرة أخيرة سألته: «لماذا لا تريد أن تأتي؟» أربكه السؤال وكاد يبكي، لكنّه تمالك نفسه أمامها... «الأطفال يتصوّرون آباءهم سوبرمان قادراً على فعل كل شيء»، يقول.
نسأل إذا كان المدوّن والروائي ابن سيناء قد بكى في السجن؟ يجيب: «إطلاقاً. البدوي لا يبكي عندما يحزن أو يضعف. لا يبكي إلا عندما يفرح». لا يعرف صاحب «طلعة البدن» (روايته الوحيدة الصادرة عن «دار ميريت» ـــــ 2007) سبباً لاعتقاله. «لم أكن أعرف أنّني خطير لهذه الدرجة» يقول. «ربما أزعجهم أنّني حوّلت خطاب البدو إلى خطاب مشتبك مع الزمن الحضاري». أبو فجر بدوي لكنّه لم يرعَ الغنم، بل تخرّج من «قسم الوثائق والمكتبات» في «كلية الآداب»، وكتب الرواية، ودوّن على الإنترنت. ألهذه الأسباب كلّها عدُّوه خطراً على الأمن؟ كان يعمل في إحدى الشركات في الإسماعيلية، ويسكن في شقّة تابعة لها. كان جميع سكان البناية قادرين على استقبال الزوّار ما عداه، «لأنّه بدوي» كما قال له رجل الأمن عندما رفض أن يزوره أخوه. فوجئ بأنّه مراقب طيلة النهار، فكاد يجنّ: «أنا مصري ومن حقّي أن أستقبل زوّاري ساعة أشاء»، لكنّه وجد نفسه محاصراً بالريبة.
كانت الكتابة وسيلته لتفريغ هذه الضغوط. «لم يكن لديّ أحلامٌ كبيرة في أن أكون كاتباً عظيماً، فقط كنت أريد أن أقول نفسي». يتذكّر أبو فجر مقولةً للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان عندما سألوه لماذا تكتب وأجاب: «كنت أقول للناس في باريس السلام عليكم، ولم يكن أحد يردّ عليّ. فقررت أن أقولها لهم كتابةً». لكنّ الرواية لم تكن كافية. في أحد اجتماعات البدو لمناقشة قضاياهم، سأل أحدهم في نهاية المناقشة: «والآن ماذا نريد؟». أجاب طفل صغير: «ودنا نعيش»... فصاحوا جميعاً خلف الصغير: «ودنا نعيش». أراد مسعد تحويل هذا الشعار إلى واقع علمي، إلى تكنولوجيا، فنصحه أحد أصدقائه بإنشاء مدوّنة، تلقي الضوء على الظلم الذي يتعرض له البدو، وحقهم في حياة كريمة بعد سنوات من الإهمال والتجاهل، والتعاطي معهم كمشاريع أعداء. «تعرّضنا لظلم لا يتحمّله بشر. في مقابل أقسام الشرطة التي تمتلىء بها سيناء، لا يوجد مركز تعليمي متميّز واحد». لكنّ صرخة طلب الحياة لم تعجب النظام. ارتبكت السلطة أمام مغامرة الروائي الشاب، هي التي اعتادت الصمت. وجاء قرار الاعتقال: «محاولة لقتل النموذج، ورسالة لكلّ البدو أنّ عليهم التزام الصمت».
يعود مسعد بذاكرته إلى ذلك اليوم من عام 2007. «جاؤوا في التاسعة، حملوا معهم الكومبيوتر، وكل أوراقي وصوري. كانت مفاجأة لي. كنت أتصوّر أن فترة اعتقالي ستكون موقتة لا تتجاوز أربعين يوماً، لأكتشف أنها ستمتد سنوات». عندما أدرك أن «الرحلة» ستطول، قرّر البحث عن الجانب «الإيجابي» من التجربة. يقول «في يومي الأول، قلت لهم لو استطعت أن أقرأ في السجن عشرة آلاف صفحة أكون قد انتصرت على سجّاني». في البداية مع التنقّل بين المعتقلات، وحجرات أسفل الأرض، كانت القراءة صعبة، لكن تحت ضغوط المثقّفين ومنظّمات المجتمع المدني سمح سجّانه بإدخال الكتب له.
كان محمود درويش شريكه الدائم في الزنزانة، كما قرأ رواية «ذكريات من منزل الموتى» لدستويفسكي أكثر من مرّة. «ما أدهشني أنّ زنازين مصر في القرن الحادي والعشرين أسوأ وأكثر بؤساً من زنازين سيبيريا منذ 150 عاماً»، يقول ضاحكاً. لكنّه لم يكتب في الزنزانة. «في كل مرّة كانوا يفتّشون المكان بعد خروجي ويأخذون ما كتبته ويقومون بتصويره. آلمني هذا الأمر كثيراً، لأنّ الكاتب لا يحب أن يطّلع أحد على كتابته قبل أن تنضج».
بعد سنوات الاعتقال، تسأله إن كان السجن قد كسره. يضحك مجيباً: «السجن ليس مخيفاً. هو فاصلة بين جملتين، فاصلة في سياق النص». وكان همّه في هذه الفاصلة «أن يكون النص إنسانياً»، يقول. «صراعي لم يكن معهم، كان مع نفسي بالأساس، إذ لم أكن أريد أن أفقد إنسانيتي». لا يريد مسعد أن يتوقف كثيراً أمام التجربة، في إحصاء الخسائر والمكاسب، «لأنّ كلّ فعل يحمل ضده. فترة السجن فيها بؤس، لكنّها تحمل فكرة الحرية». هذا ما كان يقوله للسجناء زملائه. إلّا أنّ جرحه الأكبر الذي لم يندمل كان «سرقة خمسة كرّاسات سجلت فيها يومياتي وتأمّلاتي. هذا أكبر أذى تعرضت له في الزنزانة».
الصغيرة رناد تلتصق به أكثر، هو يحكي عن الصحراء التي نشأ فيها. عن سيناء التي علّمته كيف يفكرّ على خطٍّ مستقيم، وعلّمته أنّ الحياة لا تكف عن إهداء المفاجآت. يتذكّر عندما وقّع روايات إبراهيم الكوني، وكيف قال يومها: «هذه هي المهنة التي أريدها».
الآن، ليس لدى ابن الصحراء أحلام كبيرة سوى «أن تلتحق رناد بجامعة من أفضل خمسين جامعة في العالم». رناد لا تريد شيئاً الآن أيضاً، إلّا أن تصير محامية عندما تكبر «حتى تدافع عن المظلومين». أمّا والدها، فسيواصل نضاله من دون أن يتحوّل إلى «زعيم سياسي أو قبائلي». نسأله إن كان نادماً على شيء، يصمت ثمّ يجيب: «لست مشغولاً بالصحيح والخطأ، أنا مشغول بالمتعة. أستمتع وأنا أكتب، وأنا أنشر، وأنا في السجن. لذلك لست نادماً على شيء مطلقاً!».


5 تواريخ

1966
الولادة في رفح (سيناء ـــــ مصر)

1991
تخرّج من «قسم الوثائق والمكتبات» في «كليّة الآداب» (جامعة القاهرة)

2007
أصدر روايته الأولى «طلعة البدن» عن «دار ميريت»

2008
اعتُقل بسبب دفاعه عن قضايا البدو عبر مدوّنته الشخصية «ودنا نعيش»

2010
أُفرج عنه بعد عامين ونصف عام من الاعتقال، ويعمل على نشر روايته الثانية «كمائن متحرّكة»