بين الاهتمام بقطيع من الأغنام واصطحابه يومياً للرعي في الحقول، ومتابعة التحصيل العلمي في اختصاص هندسة الكهرباء، مساحة تتّسع لأحلام الفتى سليمان رحمة، الطفل الذي ولد في قرية عيتا الشعب الحدودية لعائلة فقيرة لا تملك معيلاً، ولا مصدراً للرزق سوى زراعة التبغ ورعاية الأغنام
عيتا الشعب ــ زينب صالح
يجلس سليمان على عتبة المنزل المؤقت الذي أواه هو وأسرته منذ عدوان تموز 2006 في قرية عيتا الشعب الحدودية. يمعن النظر في شتلات التبغ المزروعة أمام البيت، ويفكّر بقطيع الماعز الذي سيقوده إلى الحقل في الصباح. لكنّ حلمه لا يتوقف عند الآفاق المفتوحة التي يسرح فيها مع قطيعه كل يوم. حلمه يتجاوز المزارع والحقول. «أريد أن أصبح مهندس كهرباء». فرعاية الأغنام والماعز ليست هواية الفتى الذي أتمّ هذا العام سنواته العشر، وهو طبعاً يفضّل اللعب مع رفاقه على تحمل تلك المسؤولية، لكنها «الباب الوحيد لرزق عائلتي بعد زراعة التبغ، وأبي مريض لا يستطيع العمل، لذلك أتولى أنا الاهتمام بقطيعنا ورعايته والذهاب به إلى حقول البلدة المجاورة» كما يروي، مضيفاً: «بعد الرعاية، تحلب والدتي القطيع وتبيع الحليب لنعيش من مردوده. لا آخذ منها نقوداً إلا في ما ندر، لأني أعلم أنها تحتاج إليها أكثر مني، لسدّ مصاريف الأسرة».
ولكن، في الحقول أيضاً مغامرات، ولو أنها ليست شبيهة تماماً بلعبة الغميضة أو الكرة التي يعشقها الصغار. مغامرات سليمان التي يعدّدها بفخر، تكمن في مطاردة الأفاعي الكبيرة، وقتلها. «أمس رأيت أفعى كبيرة، طاردتها وقتلتها بالحجارة والعصا اللي بإيدي». سليمان لا يخاف الأفاعي، قتلها أصبح لعبة روتينية يمارسها بسهولة إطلاق صرخة «أوفريرا» في الغميضة التي يلعبها الأطفال «العاديون». في المطلق، هو لم يعد يخاف الحيوانات التي يصادفها، ولا العقارب التي تكثر في الصيف، لأنه يعتقد أنها لن تؤذيه، فـ«والدي يقول إنها لن تلدغني». أما عن المغامرات الأكثر خطورة، كالسير في حقول زرعها العدو الإسرائيلي بألغام تنبت الموت أو التشوه كل يوم في سكان قرى الجنوب، فلا وجود لها في بال الراعي الصغير، المقتنع بأنه «ما في ألغام، الحقول آمنة، بيّي بيقول هيك». الوالد، الذي كان راعياً للمواشي بدوره، قد أجبرته إصابته بذبحة قلبية منذ سنوات عدة على التقاعد ولزوم المنزل، ما اضطرّه إلى تسليم مسؤولية القطيع لولده البكر، سليمان. ابن الأعوام العشرة، لديه من المسؤولية ما يفوق سنّه بأعوام، ولديه من الأحلام ما تعجز الحقول الواسعة عن استيعابه، ولديه أيضاً، مشكلة صحية تصعّب مهمته، لكنها لا تجهض عزيمته. فسليمان يعاني من رجفة في الأعصاب بدأت تظهر من عمر الرابعة. لم يتسنّ لوالديه أن يتابعا الحالة طبياً بسبب الوضع المالي الصعب، لكنهما لاحظا أنها تنتابه «لدى تعرضه لكلمة مزعجة من رفاقه في المدرسة»، بحسب كلام والدته. ملاحظة يعارض الفتى دقّتها، فهو ينكر سماعه لكلمات سخرية بسبب «مهنته»، لكن والدته وشقيقه يؤكدان ذلك، فيوضح «أنا لا أخجل من رعاية الأغنام، لكن ليس من الضروري أن يناديني زملائي براعي الأغنام الصغير، فهذا مزعج». ولا يتوقّف التهكم الاجتماعي على زملاء الدراسة، كما تروي الوالدة، إذ إن «بعض الأساتذة أيضاً يحذّرونه من مستقبل راعي الأغنام الذي ينتظره، بدل أن يحيّوا مسؤوليته وأن يدعوا رفاقه للتمثل بوعيه والتزامه. هذا

سأغدو مثل ابن عمي الذي كان راعياً وتابع علمه وأصبح مهندساً

الكلام يضايقه، وخاصة أنه مرهف الإحساس». لا يتوّقف سليمان عن رعاية قطيعه أيام المدرسة، «لأنه لولا القطيع لما استطعنا أنا وإخوتي تأمين نفقات المدرسة الرسمية» كما يقول. يذهب إلى الحقول أيام العطل، وبعد الدوام المدرسي، ما سبّب له تأخراً دراسياً ورسوبه في العام الماضي، تتحسر الوالدة عليه شارحة «لم أستطع تأمين معلمة خصوصية له بسبب وضعنا الاقتصادي، وأنا ووالده لا نستطيع تعليمه في المنزل». تعرف الوالدة أنّ أجواء منزلها ليست محيطاً هادئاً للدراسة، وأن أبناءها الأربعة يحتاجون الى اهتمام أكبر لإنهاء صفوفهم بنجاح، لكنها لا تستطيع فعل شيء. فـ«سليمان أكبر إخوته، وعليه مساعدتنا، كما أن شقيقه علي يساعدنا أيضاً في رعاية بضع غنمات القطيع»، كما تقول مضيفة «سأفعل ما بوسعي كي أعلّمهم وأجنّبهم مستقبلاً متعباً». هندسة الكهرباء التي يحلم سليمان بتعلمها، لم يسمع بها محض صدفة، فهو يتبع مثالاً أعلى يحتذي بتجربته: «ابن عمي مهندس كهرباء، وكان يرعى الأغنام في صغره ليساعد والده أيضاً». الحلم كبير، يتشاركه سليمان ووالدته التي تؤكد أنه «وإن كان هذا الحلم محفوفاً بالمخاطر بسبب وضعنا المادي، والمستوى الأكاديمي الضعيف لسليمان، إلا أني سأسعى جاهدة لمساعدته حتى إيصاله الى الجامعة».