في الوقت الذي أعلنت فيه منظمة الصحة العالمية، الأسبوع المنصرم، انتقال العالم «إلى مرحلة ما بعد الجائحة (الوباء)» بالنسبة إلى أنفلونزا الخنازير، كان «ر. أ. س»، ابن بلدة حصرايل وصاحب مزرعة دجاج غير نظامية فيها، ينام منذ ثلاثة أسابيع في غرفة معزولة في قسم العناية الفائقة لمستشفى المعونات بجبيل، موصولاً بأجهزة تنفّس، ومنوّماً اصطناعياً لئلا تتضرّر رئتاه أكثر مما هما متضررتان... بالفيروس نفسه
حصرايل ــ ضحى شمس
اللافتة المزروعة عند مدخل بلدة حصرايل لافتة فعلاً. بل هي على الأصح غابة من لافتات صغيرة تحمل أسماء المصانع التي نبتت كالفطر في واحدة من أجمل بلدات بلاد جبيل المطلة على البحر. وتشبيه انتشار المصانع في حصرايل بالفطر ليس مجرد استخدام لصورة مجازية مستهلكة. فبلدة القائد الشيوعي الراحل فرج الله الحلو شهدت خلال العقود الماضية غزواً فوضوياً صناعياً أتى على غاباتها الصنوبرية التي نبتت مكانها غابة من نوع آخر: 54 مصنعاً في بلدة لا يتجاوز عدد سكانها ألف نسمة، أي بمعدل مصنع لكل 18 شخصاً! «تتدارك» حصرايل مستقبلها، فتتحول تدريجاً، من بلدة جميلة ضائعة بين أشجار الصنوبر وبيوت القرميد والحجر، إلى مزيج من «جنة صناعية» على وزن «جنة ضريبية»، واستدراكات قانونية لإعادة تصنيف المنطقة وفق خريطة مخالفات تحولت إلى أمر واقع. ماذا يفيد الجمال الطبيعي لحصرايل أهلها في ظل تهميش الأطراف الذي وحده، من بين كل كليشيهات النفاق الرسمي، لا يفرّق بين المذاهب؟ لا شيء. كأن كل تلك المصائب لا تكفي، فإذا بمصيبة إضافية تقع على رؤوس الأهالي. فبين 20 و21 تموز الماضي، أُدخل ر. ا. س، صاحب مزرعة دواجن غير نظامية، «العناية الفائقة إثر انهياره من شدة المرض غائباً عن الوعي، وهو ينتظر أن يدبّر له الطبيب سريراً»، كما قال لنا رئيس البلدية عقل الحلو. أُدخل الرجل في ما يشبه الكوما الاصطناعية بطلب من طبيبه لإراحة رئتيه، فقد «أهمل حالو كتير» كما يُجمع أهل قريته، وهو الأمر الوحيد الذي يُجمعون عليه في رواية ما حصل لصاحب مزرعة تربية الدجاج، إضافة إلى حيرتهم في مصدر مرضه المعلن: H1N1 أي فيروس أنفلونزا الخنازير. لمَ الخنازير وليس أنفلونزا الطيور؟ وخصوصاً أن عدداً كبيراً من طيور «الفوج الأخير» نفق قبيل دخوله المستشفى بأيام لأسباب غامضة؟ لا أحد يعلم. ماذا عن البلدة وأهلها الذين نزح بعضهم منها في انتظار تكشّف حقيقة الفيروس الذي لم نسمع عنه شيئاً في الإعلام؟ لمَ التعتيم والكتمان وهما البيئة الخصبة للشائعات؟ وما مدى خطورة ما حصل على السلامة العامة؟
تلفّ السيارة بنا منعطفات طريق اسفلتي يصعد صوب المزرعة في أعلى البلدة. المشهد على الطريق يؤكد انطباعك الأوّلي: حركة بناء المصانع «مستشرية» في تلال حصرايل. «هونيك» يقول عامل في ورشة بناء مصنع بويا من طبقات عدة، مشيراً إلى مبنى «حائر» هندسياً بين المستودع والقبو، خُطّ على أحد جدرانه بالبويا الحمراء: «مزرعة روكز». تتوقف السيارة مقابل الباب الحديد المقفل. تترجّل لتجد نفسك واقفاً وسط كومة من ... براز الدجاج القديم المتحوّل إلى ما يشبه التبن الجاف.
«تعثّر» الخطوة الأولى لم يمنعنا من أن «نكرج» نزولاً باتجاه منزل الجيران الأقرب. يتضاحك عمال البناء العاكفون على العمل في بناء ملحق بمصنع للخشب، مقابل المزرعة المقفلة، لمشهد نزولنا بتأنٍّ شديد خوفاً من السقوط نظراً لانحدارها الشديد. عامل هندي بينهم يشير إلى تحليق... هليكوبتر عشية وصولنا، وقد رشّت ما يظنه مبيدات فوق منطقة المزرعة. يؤكد بقية العمال الأمر.
قالوا إن وزارة الصحة عقّمت المزرعة، أليس من المفروض أن يطمئنّوا علينا ويطمئنونا؟
الجار الأقرب إلى المزرعة كان مايز عبيد. تُفاجأ باللهجة العكارية للمزارع الستيني الذي يسكن البلدة منذ بضع سنوات فقط. كان الرجل منهمكاً هو الآخر بالإشراف على ورشة بناء مجاورة لمنزله الواقع أسفل التلة، فيما جلست زوجته في الطبقة العارية من البناء، تصبّ شاياً في أقداح للعمال. صياح ديك جذب انتباهنا إلى قنّ صغير كانت بعض الدجاجات البلدية تقوقئ فيه، تسألهم إذا كانوا حتى الآن يربّون دجاجاً هنا، رغم ما يتردد عن إصابة بلدتهم بفيروس قد يكون أنفلونزا الطيور، فتجيب العجوز بثقة: «دجاجاتنا بلديات»! مضيفة أن مزرعة أخرى للدجاج، على بعد خمسين متراً من الأولى، لكنها نظامية، بدورها ما زالت مستمرة.
لا يخفي جيران المزارع المريض، الذي وصفه العديد هنا بالبسيط ولكن بالصعب المراس، أن جيرته كانت صعبة عليهم. «قبل كل حساب، يقول مايز وهو يجلس فوق بضع أحجار خفان تنتظر دورها لتصبح جداراً، تقاتلنا معه كتير بسبب الريحة. زنخة قد ما بدّك. كان يشطف بعد كل فوج (فراريج) وتنزل الماي علينا. ما كان بدنا عداوة لأننا جدد بالمنطقة. ومنذ سنة ونصف اتفقنا حبيّاً مع أخيه وتحدثنا إلى البلدية فجاء مهندس وركّب شفّاطات». ثم؟ «من شهر ونصف تقريباً لم نسمع إلا أن «ر» مريض وتعبان كثير، وأنهم يريدون تعقيم مزرعته. كانت كل الضيعة مخضوضة. جيراننا من بيت دريان إجو نهار المشكلة، وعادوا فلّوا دغري وما رجعوا. جيران أهلو هربوا أيضاً كام يوم، زوجته وزوجة أخيه في بيت أهلهن حتى اليوم مع الأولاد. الناس توقفت عن زيارتهم». تصل كنّة العائلة على ما يبدو، وهي تحمل صينية عليها أكواب يهتزّ فيها العصير على وقع خطواتها، فتنقبض قلوبنا لإحراج ضيافة خطرة. تبادرنا: «قالوا إن وزارة الصحة إجت عقّمت المزرعة. أليس من المفروض أن يطمئنوا علينا ويطمنونا، ونحن الأقرب إلى المزرعة؟ بعدين فروج الهوا (تشيكن) مفروض يجي يحكي، لأنو مسؤول عن الفراريج»، نسألها كيف؟ فتقول: «هو من يعطي أصحاب تلك المزارع أفواجاً من الصيصان لتربيتها». نسأل الكنّة التي لا تنفكّ تدعونا لشرب العصير، محاولين تغيير الموضوع، إن كانت قد زارت ابن بلدتها المريض، فتنفي مبررة «أنا عندي طفالى!». ولكن هل كانوا يعرفون حقيقة إصابته؟ «كل حدا بيقول شي»، يجيب مايز، «ساعة بيقولوا أكل لحم خنزير نيء و(قال)كان الخنزير آكل جرذون مصاب بالطاعون (يضحكون)، إنو هالخنزير اللي آكل جرذون ما حدا آكل منّو غير «ر»؟ حتى البلدية لما عرفت بمرضو قالت :مش من الدجاج»!. نسأله ونحن نرى الغبار على الشجر، كيف يسكن في منطقة صناعية مثل هذه؟ يجيب: «لما اشترينا كانت الأرض عادية للسكن. لعبوا بالتصنيف وصلت الصناعة لعنّا. بعدين «ر» ما عندو ترخيص. المزرعة مش لإلو. لما صار المشكل ما عاد «الهوا» عطاه صيصان». وماذا عن أفراد عائلته؟ تقول أنطوانيت: «صحيح زوجته أصيبت، لكنها تعافت، وكذلك أخوه الذي يلمّ زبالة الضيعة وزوجته وابنهما لكنهم تعافوا أيضاً. ومن يؤكد لي أن العمال المليانة في محيط المزرعة غير مصابين؟» تسأل. وماذا عنهم؟ وعن قنّ دجاجهم البلدي؟ هل فحصهم أحد؟ يجيبون: «ما حدا دقّ بابنا، اشربوا اشربوا ما تخافوا، مياهنا من بئر بعيدة!».
لكنهم في الليلة ذاتها أرسلوا شغّيلاً ونظّفوا المزرعة! هم؟ من هم؟ شو بيعرفني
في منزل آخر في البلدة، تهمس السيدة الخمسينية كأنها تخاف أن يسمعها أحد تتحدث «بالموضوع». العديد ممن تحدثنا إليهم رفضوا ذكر أسمائهم. لا بل إن بعضهم «اعترف» بأنه اتصل سراً بوزارة الزراعة أو بوزارة الصحة. تعيد السيدة ما كرره الجميع «شاعت الخبرية لما فات «ر» على المستشفى. قبل بجمعة كانت حرارتو عالية وما عم تنزل، الطبيب أصرّ على نقله إلى مستشفى، لكنه رفض طالباً أن يعلّقوا له مصلاً بالبيت. تأخّر على العلاج». نسأل الصبية إذا كانت تعرف ما مشكلة ابن بلدتها، فترد: «القصة غامضة. بالبداية لم نكن نعرف ما به. ساعة يقولون ذبحة، ساعة الكلى. المهم، زرناه في المستشفى وقال لنا ممرض إنه مصاب بفيروس H1N1 إضافة إلىH2N3. ثم التقط أخوه العدوى. فخفنا كثيراً. العدوى تعني وباءً. الأكثرية قالوا إنه فيروس أنفلونزا الخنازير... عم يضحكوا علينا» نسألها لمَ تظن ذلك؟ فتجيب: «عندو مزرعة دجاج مش نضيفة. بلكي لاقط شي من الطير؟». سؤال منطقي، ولو أننا نعرف أنه بعد انتقال الفيروس إلى الإنسان لم يعد الحيوان شرطاً لنقله إلى الناس، بل أصبح ينتقل من شخص إلى آخر، لذلك سُمّي وباءً. مع الاعتراف بأن نوعية المعطيات تجعل من الصعب تصديق أن الإصابة لا علاقة لها بالبيئة الحاضنة للفيروس، أي المزرعة. فهذه الأخيرة غير نظامية بمعنى الظروف الصحية، والرجل على احتكاك دائم بالدجاج. والوباء بدأ منه هو بعد نفوق أعداد كبيرة لا نعرف أين دفنها، أضف إلى ذلك إشارات أخرى، من النوع الذي أشار إليه رئيس البلدية الذي قابلناه في ما بعد، فأخبرنا أنه أقنع صحافيين اتصلوا به بألّا يتطرقوا إلى الموضوع حرصاً على... مصالح الناس، «خسارة مئات آلاف الدولارات (يقصد مزارعي الدواجن) منشان شي مش متأكدين منّو؟ لشو؟ وبعدين الوباء انتهى».
في منزل آخر، كانت أكواب العصير هي الأخرى بالمرصاد، لكنّ السيدة التي حملتها سارعت إلى طمأنتنا إلى أنها مجرد «ميرندا»، أي إنها آتية من علب مقفلة. «تعترف» السيدة بأنها اتصلت «بوزارة الزراعة سراً، فقالت مساعدة الوزير إنها ستأتي شخصياً. وفعلاً، أتت في اليوم التالي، لكنهم في الليلة ذاتها أرسلوا شغيلاً ونظّفوا المزرعة»! هم؟ من هم؟ «شو بيعرفني، تقول، أصحاب المصلحة». ومن قال لها ذلك؟ تجيب «نحنا بضيعة. ما في شي بيتخبّى. إنو واحد لقط شي من محل، وقال المحل ما فيه شي؟ بعدين وين الدجاجات اللي ماتوا؟ ليه ما منعرف وين دفنهم حتى تفحصهم وزارة الزراعة؟».
كلما اقتربنا من «مركز» الإصابة، أي منزل المريض وأهله، أصبح خفض الصوت سمة عامة. يسألنا شاب بعد أن يخفض صوته: «لما شقّينا عليه (زرناه) بالمستشفى، سألنا الحكيم إن كان علينا أن نتناول التاميفلو، فقال ما في لزوم لأننا جلسنا في صالون المستشفى، فيما المريض لم يتنفّس بوجهنا ولم يلمسنا، مزبوط؟». نسأله إذا كان خائفاً؟ ينظر إلى بضعة أولاد يلعبون في الباحة المجاورة وهو يقول: «هلّق عيلة «ر» كلها عم تاخذ دوا للوقاية، ما حدا فات بيتهم. ابن أخيه وزوجته تركوا البيت وراحوا على بيت أهلها، زوجة «ر» حملت الفيروس بس تعالجت. هوّي همل حالو كتير». يقولها آسفاً. نحاول أن نطرق باب عائلة المريض لكننا نسمع ما يشبه شجاراً، فنؤجّلها. قلنا، لنقصد المختار ناصيف الحلو.
كلما اقتربنا من منزل المريض وأهله، أصبح خفض الصوت سمة عامة
«مختار ما في. مختارة في»، تقول الخادمة الأجنبية. على كنبة في الصالون الذي تزيّنه صورة لزوجها مع رئيس الجمهورية أيام كان قائداً للجيش. تجلس المختارة ليليان أمام نرجيلتها. تكرار لرواية إصابة «ر»، لكن مع تفصيل إضافي: لقد بصق دماً. تروي المختارة: «لمّا بصق دماً، ذهب إلى الطبيب، لكنه تعارك مع الممرضات ورجع إلى البيت. استمرت حرارته بالارتفاع ثم لم تعد تنزل. لمّا استوى ع الآخر، كانت رئتاه قد انتهتا». وماذا عنهم، الأهالي؟ تقول: «يعني عنده مزرعة دجاج، ونفق العديد منها، وعلى ما يبدو دفنها في السواد (براز الدجاج). حوالى 24 الشهر جاءت وزارتا الصحة والزراعة، أخذوا عيّنات وأرسلوها إلى المختبر، لكن تبيّن أنها نظيفة». وكيف عرفت؟ تقول: «ردّوا خبر للبلدية لأنها هي من طلبتهم». وماذا عن الهليكوبتر التي قيل لنا إنها رشّت مبيدات أمس؟ تقول: «لا أعرف، هناك دائماً تحليق، فثكنة الجيش قريبة». وهل زارتهم وزارة الصحة أو زارت الأهالي؟ تقول «وزّعوا علينا ملصقات عن النظافة والتعقيم، لكنهم قالوا إن الحالة منزلية ولم تنتقل إلى الجيران»، وكيف عرفوا بذلك إن لم يفحصوا الجيران؟ تقول: «والله ما بعرف».
مقابل مدخل منزل رئيس البلدية، منزل حجري قديم على مقربة من تمثال القائد الشيوعي فرج الله الحلو. يتناهى من النافذة صوت مسلسل سوري كان التلفزيون يعرضه. هل المنزل مأهول؟ نسأل مضيفتنا، فتقول إن بعض العمال الزراعيين يقطنوه اليوم. ومع أنك تظن أن القائد الكبير كان ليسرّ بإيواء عمال زراعيين في بيته المتواضع، إلا أنك تأسف على ما آل إليه البيت، وخاصة أن من أسكن العمال هنا لا شكّ في أنه لم ينطلق من التقويم أعلاه.
من أجلنا توقظ الزوجة رئيس البلدية، عقل الحلو. يروي الرجل الرواية ذاتها، ولكن مع تفاصيل أخرى، لكونه هو، كما قال لنا، من تسلّم كل موضوع التدقيق في إصابة الرجل. يقول إن «ر» كان «يطبّب نفسه بنفسه، فيتناول أدوية مضادة للالتهابات بكثرة، وإنه «عمل فوجين دجاج» من دون شغّيل معه، لا بل إنه كان أحياناً يعمل بالليل «حتى يلحّق»، فتعب كثيراً، وقد قال لي عندما رأى دماً في البول، إن معه بحصة في الكلية، فذهب إلى الطبيب، لكنه أخذ مضادات الالتهاب عشوائياً». وماذا أيضاً. يقول: «لما بيّن معو H1N1 بالمختبر، تعارك مع المستشفى ورجع ع البيت. ثم أقنعه الطبيب بالذهاب إلى المستشفى. هوّي وناطر بالمعونات تيْدَبْرلو الحكيم محل غاب عن الوعي وبعدو غايب»! لم نفهم: هل شخّصوا الفيروس في مستشفى المعونات في جبيل؟ قال: «ما بيّن بالفحوصات بجبيل (!). لكنّ طبيبه طلب أن يرسل فحصاً لمستشفى الروم. أخذنا العيّنة (بصاق). أنا أخذتها، فطلعت النتيجة أنه مصاب بفيروس H1N1، أي أنفلونزا الخنازير، وبدأوا بعلاجه على هذا الأساس. على ضوء ذلك اتصلت بالدكتور شوقي الحلو، طبيب القضاء في وزارة الصحة، فتحرك مع أنها كانت عطلة، نحن اليوم (الأربعاء الماضي) بالأسبوع الثالث. اتصلنا بوزارة الزراعة فأرسلوا وأخذوا عيّنة من المزرعة، كذلك أخذوا عيّنة من مزرعة خنازير في البلدة، لأن لغط الناس كثر. طلعت النتائج بعد 48 ساعة: ما في شي بالدجاج ولا بالخنازير». هل يقصد أنهم فحصوا الدجاج النافق؟ يقول: «لا نعرف أين دفن الدجاج، قصدت أنهم أخذوا عيّنات ريش من المزرعة». ولكن فلنلخّص: «ر» يربّي الدجاج لحساب شركة في مزرعة غير نظامية ولا تتوافر فيها الشروط الصحية، يصاب بأنفلونزا الخنازير، فيما مزرعة الخنازير غير مصابة. السؤال: من أين أتى الفيروس إذاً؟ وخاصة أن وصف المصاب أقرب إلى شخص لا يخرج من مزرعته إلا لبيته؟ يجيب: «أصلاً الفيروس لم يعد يأتي من الحيوان، صار عم يجي من الصين وماليزيا وغيرها»!. يُكمل لنا أنه عندما تبيّن أن شقيق «ر» مصاب بالعدوى، أرسلوه إلى مستشفى الحريري ببيروت، لأنه لا أمكنة في مستشفى المعونات في جبيل، قعد هناك بضعة أيام حتى أبلّ من مرضه».
واليوم؟ كيف حال «ر»؟ يقول: «لا يزال الحكيم يعطيه مخدراً ليبقى نائماً، لأن رئتيه متقرّحتان. وحسب الطبيب، فإن المخدر يوسّع الشرايين فيصل الأوكسيجين أكثر إلى الرأس... اليوم وضعه جيد: مؤشراته جيدة، الحرارة ذهبت عنه، مفروض أن يوقظوه خلال 48 ساعة، لكن هناك خوف من أن تتمزّق الرئتان، ففيهما تليّف يخاف الطبيب أن يمزق الرئتين إذا سعل»! وماذا عن الأهالي؟ يجيب: «هناك توجّه لإبعاد الناس عن الموضوع»! لكنّ الناس مذعورون والشائعات تنتشر، يقول ساخراً: «إيه طاعون وجرذون وما بعرف شو... لكن صار لقاء مع العائلة لإقناعهم بألّا يختلطوا بالناس إلى أن يُنهوا علاج التاميفلو، ولقد تفهّمت العائلة الأمر. الناس فزعانة ومن حقها، ولكن ماذا نفعل؟».
«ر» يربّي الدجاج لحساب شركة في مزرعة غير نظامية ولا تتوافر فيها الشروط الصحية
يبقى سؤال، من أين أتت العدوى؟ يقول: «نحن نسأل كما كل الناس، وكلّ ما لدينا الجواب الرسمي». نسأله إن كانت لديه نسخة من الفحوص المخبرية، يغيب لدقائق ويعود بنسخة من التقريرين: الأول مصدره مستشفى الروم ويقول إن المريض مصاب بفيروس H1N1، والثاني من مختبر الفنار التابع لوزارة الزراعة يفيد بأنّ «عينات الريش والبراز التي أُخذت من المزرعة خالية من الفيروس». وأين الطيور النافقة؟ هل فُحصت؟ يجيب: «لا نعرف، «ر» وحده يعرف، وهو غائب عن الوعي. ربما دفنها أخوه؟ لكني سألته وقال إنه لا يعرف. ربما وضعها في أكياس الزبالة وراحت بكميون الزبالة؟ ما بعرف. أنا إلي الفحوصات». وماذا عن المزرعة الأخرى التي لا تبعد أكثر من 50 متراً عن الأولى؟ يقول: «لا مشكلة فيها لأنها مقفلة وتهوئتها جيدة». يضيف: «هلّق الناس ربطت بين ما حصل عند «ر» وما أصابه. يعني أنه في اليومين الماضيين، ولما كبرت الدجاجات وصار بدو يسلّمهم نفقوا. الهوا (تشيكن) بلّغ أن هذا الأمر طبيعي بهذا العمر»!
وماذا عن ذعر الأهالي؟ يقول: «حالة الذعر قطّعت، وزارة الصحة لم تقصّر. سألوني إذا كان يجب أن نقوم بندوة توعية ليرسلوا من يقوم بذلك، ولكن كانت هناك استحالة، لأنه كان عندنا بين 24 تموز وأول آب مهرجان رياضي(!) ولتجي تسحب الناس من المهرجان والمهرجان ماشي مش زابطة». على وجوهنا كان الوجوم لا شك واضحاً، وجوم حاولنا تمويهه بالإقبال طواعية هذه المرة على شرب العصير الذي كانت سيدة المنزل قد وضعت أكوابه أمامنا.


مهرجان ما بعد الإصابة

يقول د. زهير برو، رئيس جمعية المستهلك، إن الخطوة الأولى التي يؤسّس عليها في كيفية التصرّف هي حسم نوع الفيروس: «إن كان أنفلونزا طيور في بيئة تُربّى فيها الكثير من الطيور، طبعاً عندها يجب اتخاذ إجراءات وقائية لجهة التخلص من الطيور وكل ما يستتبع ذلك من إجراءات حددتها وزارة الصحة. أما إذا كان أنفلونزا خنازير فالموضوع أقل خطورة، إلا في حال ظهور حالات جديدة في البلدة. فإذا ظهرت، يجب اتخاذ إجراءات طوارئ جديّة. أما بالنسبة إلى موضوع المهرجان، فقد كان القرار باستمراره خاطئاً تماماً، وخصوصاً أنه جاء بعد معرفة نوع الفيروس الذي ينتقل بالعدوى. وكان من الخطورة بمكان السماح بتجمّعات كبيرة في البلدة المصابة. كان ممكن أن تسبّب كارثة».
أول ما يقوله لنا طبيب المريض «ر» إنه لا يستطيع أن يُفشي حالته الصحية التزاماً بسر المهنة. لكن أليست قضية سلامة عامة؟ يقول: «حتى الآن يفضّل ألّا نحكي بالإعلام. نحن في مرحلة ضبط الأمور اجتماعيا وصحياً». يضيف: «المريض في مرحلة الشفاء ولا أحد غيره مصاب»، لكنه لم يفحص غيره وغير عائلته. يقول: «لا شك كانت هناك إدارة سيّئة للمزرعة ناتجة من ثقافة صحية ما. بداية كاختصاصي ظننت أنها أنفلونزا الطيور، لكنّ فحص أنفلونزا الخنازير كان إيجابيّاً. يقال إنه كان لديه عامل (أجنبي؟) ربما هو من نقل الفيروس إليه. لا أعرف، إلى أن يستفيق سيخبرنا».
نتصل بطبيب القضاء، شوقي الحلو، ونسأله عن الإجراءات التي اتخذتها وزارة الصحة للسلامة العامة فيجيب: «عزلنا المريض بالدرجة الأولى، وبدأنا نعطيه تاميفلو... الإصابة كانت غريبة لأنها في غير الموسم، أما بالنسبة إلى السلامة العامة، فقد أعطينا كل من احتكّوا بالمريض علاجاً، والحمد لله مشي الحال. كذلك قلنا للناس: ما تقرّبوا على أهلو حتى تطلع نتائج الفحوصات. وطلبنا إلى الأهل أن يتقبّلوا عزلة مؤقتة، وهو فيروس عادي إذا بدأنا باكراً بالعلاج». وهل يرجّح أن يكون سبب الإصابة مزرعة «ر»؟ يقول: «أكيد لأ. اتصلنا بوزارة الزراعة وأتوا فوراً وأخذوا عيّنات وكانت النتائج سلبية في المزرعة»، ولكن قال الناس إن هناك من نظّف المزرعة ليلاً قبل وصول الوزارة، إضافة إلى أننا لا نعرف أين دفن الطيور النافقة. يجيب: «أنا ساكن بالضيعة وبعرف شو بينحكى. هذه خبرية غير جدية. نحن مستغربون صراحة من أنها أنفلونزا الخنازير. توقعنا كلنا أن تكون أنفلونزا الطيور. ولكن لا». وماذا عن إبلاغ منظمة الصحة العالمية؟ يجيب: «تكلمنا إليهم وأخذنا رأيهم وماذا يجب أن نفعل، ونسّقنا معهم كوزارة صحة لتدارك أي إصابات إضافية».