أنسي الحاج

شعوبُ مجازر
أخطر ما في الشعور حيال الاضطرابات الأمنيّة هو انعدام التعليق. لا الخوف تعليق ولا القرف. أمّا الانفعال فإعادة إنتاج لسذاجة تستحقّ الشفقة.
الشيء الوحيد الحقيقي هو الضحايا. ونحن جزء من مجتمعات لا قيمة فيها للحياة، مجتمعات تُقدِّس من يدوسها وتبايع من يُروّعها، وتغتنم فرصة سقوط الضحايا لتعزّز في ذاتها مصادر الاستهتار بحياة الآخر.
نحن شعوب إرهابية تمارس الإرهاب بعضها على بعض وتؤلّه أشدّ الإرهابيين فتكاً بها.
شعوبُ مجازر. لنرجع إلى تاريخنا. لنرجع إلى حوادثنا الطازجة أمس، اليوم، وغداً. على بركات الله.


رثاء الفساد
أنقل عن مريد البرغوثي، في كتابه «ولدتُ هناك، ولدتُ هنا» (دار رياض الريس، 2009) هذه السطور في وصف أحد الفاسدين: «لم يكن من كبار فاسدي السلطة بل مجرّد فاسد صغير مبتدئ يوجد الآلاف منه في كلّ مكان. الفاسدون الكبار لم يعد مرآهم يثير إلّا اللامبالاة. هم فاسدون بشكل راسخ وعريق ومفروغ منه (...) أمّا هو فخريج جامعي شاب في بداية حياته العمليّة، لم يكن فساده حتميّاً، أولئك «انتهوا» فاسدين وهو «يبدأ» فاسداً. فساده فساد يانع، طازج متوّرد الخدين، فساد قويّ العضلات، يمارس رياضة كمال الأجسام، يُدلّك نفسه إن لم يجد من يدلكه (...) فساد مرن المفاصل، قوي العظام، حاد البصر، بارع في استخدام حاسة الشمّ عن بعد...».
■ ■ ■
نأى الفساد الحديث بنفسه عن مملكة الشرّ التقليدية. لم يعد شيطانياً. أصبحت الشياطين تتجسد في أشكال جديدة تنوّعت حتّى التضارب. لو عاد دوستيوفسكي إلى الحياة لوجد أن مسكونيه أو شياطينه أصبحوا سفسطائيين مضجرين. لقد أسّسوا للعصر الحديث لكنّهم تخلّفوا. سبقتهم الأصناف الجديدة، البوست موديرن. أصبحت الشياطين متغلغلة في كل مناحي الحياة اليوميّة من أعلى الهرم إلى أسفل أسافله. لم يعد هناك هيياركيّة أرستقراطيّة للشياطين بل تنكّر ملوكهم وأمراؤهم في أجساد رجال المال والأعمال والسياسة والوطنيّة وصاروا الشخص وخصمه. باتت الأَبْلَسَة علكة إعلاميّة للدلالة على شخص نظيف يُراد تشويه صورته.
■ ■ ■
الشيطان، وفقاً للسياق التوراتي، هو الكائن الذي يعترض طريق الشخص لثنيه عن هدفه. إنه الخصم. وفي الإغريقيّة تعني لفظة «ديابولوس» (حسب «موسوعة الفلسفة») الواشي أو النمّام والمغتاب والمفتري. وبالعربية الشيطان «روح خبيث متمرد مسكنه النار» و«يُضْرب به المثل في الخبث والدهاء والعدوان». ويُردّ أيضاً إلى فعل «شاطَ» ومعناه احترق أو هلك. والعرب، في القاموس، تسمّي الحيّة شيطاناً. وقال الشيخ شرف الدين الجاحظ إن «الجنّي إذا كفر وظلم وتعدّى وأفسد فهو شيطان، فإن قوي على حمل البنيان والشيء الثقيل وعلى استراق السمع فهو مارد، فإن زاد على ذلك فهو عفريت، فإن طهر ونظف وصار خيراً كلّه فهو مَلَك». أما إبليس، فقد قال عنه المعلم بطرس البستاني في «محيط المحيط»: «إبليس علم جنس للشيطان قيل هو مِن أبلس بمعنى يئس وتَحيّر، وعندي أنه معرّب «ذيافوليس» باليونانيّة ومعناه قاذف أو مجرِّب، قيل وكان اسمه عزازيل».
لا تتجاوز قدرة الشياطين سلطة الله، وبحسب الأديان الإبراهيميّة الثلاثة، أن الله هو من يُعيّن لهم وظائفهم ويرسم حدودها، وغالباً ما يستعملهم كمنفذين وخدّام أو ما يعادل تسمية «وزراء». وفي سفر أيّوب يظهر الشيطان على شكل محامي الاتهام العنيد ضدّ الإنسان أمام محكمة الله. وفي العهد الجديد يبدو إبليس زعيماً للشياطين، وغالباً ما يتجلّى الشفاء والخلاص عموماً عبر انتصار يسوع على الشيطان وجيشه. وتبشّر المسيحيّة أبناءها بأن نهاية الأزمنة ستكون أيضاً نهاية الشياطين إلى الأبد. والمسيحيّة أكثر جذريّة من اليهوديّة، لا في تقبيح الشيطان فحسب، بل في تنفيس أسطورته.
إلى الآن ولم تقترن صورة الشيطان بالجنس. أفعى حوّاء في سفر التكوين أومأت إيماءً إلى كائن شرّير وتُرك باب تأويلها مفتوحاً. بقي أمير الظلام رمزاً للكبرياء والغرور والحسد والبغض والهدم، ورُبطت به معظم البلايا والخطايا، وإذا اندرج بينها الجنس فكإحدى نتائج الضعف الغريزي والوقوع في أحابيل الحواس. كان الرأي عند المسيحيين أن الشيطان ملاك عاصٍ جرف معه عدداً من الملائكة، إلى أن جاء أغسطينوس. لم يقل إن سقوط الشيطان مردود إلى خطيئة جنسيّة، لكّنه اعتبر أن في استطاعة هذا المخلوق ارتكاب أعمال جنسيّة زائغة ومنحرفة. وقال توما الأكويني إن الشياطين ملائكة أثموا بالتكبّر والحسد، إذاً ليسوا أشراراً بطبيعتهم، بل بفعل إرادتهم. قريباً منّا، قال كلّ من البابا بولس السادس ويوحنا بولس الثاني بوجود الشيطان ككائن يُخضع البشر لتجربة الخطيئة.
الخطيئة هي ما يؤذي، ما يؤذي النفس وما يؤذي الآخر خاصة. ما الذي رَبَط بين الخطيئة والجنس؟ إذا كانت الخطيئة الأولى هي تناول آدم وحوّاء فاكهة الوعي، فلا ذكر للجنس هنا إلّا بمعنى شعور الخجل نتيجة انتباهة الوعي، أي إن الرجل والمرأة صارا، بعد انتهاك النهي الإلهي، «يعرفان» أنهمّا عريانان. قبل الخطيئة كانا عريانين، لكن إدراكهما لذلك كان مخدّراً بالحبور ولم يكن إدراكاً جريحاً. لم يكن جرح في تلك الجنّة حتى تدّخل فيها ساعٍ إلى فتنة المعرفة.
قبل أغسطينوس، الذي أرسى في المسيحيّة نظريّة الخطيئة الأصليّة هو بولس، ورَبَطها بآدم، قائلاً إن الخطيئة قوّة لا يستطيع البشر مقاومتها، تارة لأنّهم مبتعدون عن الله وطوراً لأنهم متمرّدون عليه.
■ ■ ■
... في هذا الخليط كلّه، كان للفساد بريق لم يعد له. كانت له نكهة المحرّم. الخطيئة الجنسيّة نفسها كانت تبدو، وهي تختبئ، كأنها تحتفظ ببقايا عطر إلهيّ. حتّى الموت، ذروة الفساد، لم يكن باهتراء الموت «الحديث»: كان محاطاً في الطبيعة بإطارٍ نقيّ.
منذ تحوّل الفساد إلى واجب أخلاقي، إلى طموح ديموقراطي، صار الإنسان مذ يولد، يولد مشبوهاً، يولد مرشّحاً للفساد، ولفساد لم تعد تفضحه رائحة عفونته بعدما أبلى التمدّن بلاءً حسناً في ابتكار مستحضرات التعطير والتحلية.
الفساد الحديث معقّم. إنه، كما يصفه البرغوثي، رياضة من الرياضات. وأقوى ما طرأ عليه هو تخلّصه من البُعْد الديني.
أصبح شخصية شرعيّة لا رذيلة لها ولا فضيلة. لم تعد ظليلة ولا معتمة. كائن مرتَّب ومرموق. جسر تعبره «القضايا» إلى مَتاجرها. واستعاد الشيطان رتبته كرئيس لصنف من الملائكة.


من الهواء وإلى الهواء
أُحبّ الشتاء لأنّه يعزل، ولأن عرق السماء خلاله يعفي البشر من بذل عَرَقهم. في منزلي لم أعد أسمع صوت المطر بعدما طوّقته المباني من كل صوب حاجبة الشمس والهواء والقمر والمطر، لكنّي حين أُصغي بانتباه، وسط السكون، يتناهى إليّ صوت المطر وكأنه يطمئنني: «أنا هنا، لا تخف!».
في صغَري كان بيتنا طبقة أرضية ونافذة غرفة الاستقبال الواطئة تطلّ مباشرة على الشارع، وعندما تمطر أشعر، وأنا أزيّح على بخار زجاج النافذة، أني في زورق. لم أجرؤ ولا مرّة أن أركب زورقاً، فقد كفاني فخراً وأماناً زورق الشّباك العتيق. وفيما كان الآخرون يكتئبون من طقس الشتاء، كنت أجد فيه راحتي، ومع الوقت أصبحت أنتظر بفارغ صبر صوت المطر وعصف الرياح كمن يُعطى جرعة من القوّة. أمنيتي، ساعة الموت، أن يحتويني مَقْعدٌ في مكان مفتوح على الأفق، وأن ألفظ أَنفاسي إلى الرياح معيداً الهواء إلى الهواء.


عابرات

المرأة هي دائماً امرأة والرجل ليس دائماً رجلاً.
■ ■ ■
اندمْ على لحظة أُلقيَتْ لك كدولاب إنقاذ، وضيّعتَها بالانذهال.
■ ■ ■
لا يبحث المرء عن ضالته حيث لا وجود لها، لكنّ الضالة قد تكون من الفئة التي قُدِّر لها أن تظلّ ضالة.
■ ■ ■
توقّفْ عند من لا يحبّ أحداً، ويحبّك. إذا استطعت، فلا تخذلْه. وإلّا فاركضْ ناجياً بنفسك.
■ ■ ■
في مناطق مجهولة تجلس، لامعةً كحبّات المطر على رؤوس الأشجار، ذخائرُ من أشخاص رحلوا، تنتظر العابر المناسب لتحلّ فيه...
■ ■ ■
عجباً لهذا الشجر، يختفي حيث نعيش ويظهر حيث نموت!