راجانا حميةدائماً، الوجوه نفسها. لا تغيّر فيها السنون العابرة ببطءٍ مملّ، إلا الشكل، فتتجعّد وتكبر وتذبل شيئاً فشيئاً. أمس، على رصيف مركز بعثة الصليب الأحمر الدولي، كانت تلك الوجوه حاضرة. تحيي اليوم العالمي ضد الإخفاء القسري، الذي نظّمه مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب. كانت متشابهة في كل شيء: في الحزن. في الوجع. في التجوال بحثاً عن طيف. في الانتظار... في الأقنعة البيضاء التي اختبأوا خلفها أمس، والتي كان لها مغزيان واضحان وضوح الشمس: أولهما التدليل على حقيقة مخفية لم يجرؤ أحد على الاعتراف بها، وثانيهما لامبالاة الجهات المعنية بإقفال ملفٍ أُتخم بسبعة عشر ألف مفقود ومخفيّ قسراً.
على ذلك الرصيف، جلست أم عزيز الديراوي وأم إبراهيم زين الدين، وأمهات كثيرات يحيين يوماً يعشنه كل يوم. بان الكبر على وجوههن المتعبة من السنين ومن الدموع أيضاً التي لم تجد مصرفاً إلى الآن، في غياب ابن أو زوج أو أب. حتى اليدين فقدتا السيطرة على الصور التي باتت معروفة حتى دون أن تُذيّل بالأسماء. تلك الصور التي لم تعد وحدها المحمولة في اليد، فإلى جانبها بات هناك العكاز الذي لا مفر منه في تلك الرحلة التي طالت وتطول من دون نهاية.
وحدهنّ يعرفن معنى هذا اليوم. معنى الاستيقاظ صباحاً، على أمل أن يأتي الغائب. معنى السهر ليلاً بانتظار طرقة خفيفة على الباب ليدٍ فارقتها منذ سنوات طويلة. معنى ألا يكون هناك «فلذة كبد»، كما تقول أم إبراهيم، وألا يكون هناك «لا عزيز ولا منصور ولا إبراهيم ولا أحمد»، تضيف أم عزيز، العائدة إلى رصيفها بعد الغياب المبرر الذي فرضه المرض. عشر. عشرون. ثلاثون سنة على الاختطاف. يئس الكل، إلا هنّ المرميات على الأرصفة وفي الخيم. كلماتهنّ معروفة لا تعدّلها كثرة السنوات التي تمر: بدّي ياه. بدي شوفه. إذا ميّت بدي زور قبره. ومع ذلك، لا يفارقهنّ الأمل بأن «أطفالهن» لا يزالون على قيد الحياة، ولا يتنازلن عنه. دائماً، هناك الشعور بأنهم سيعودون يوماً إلى الديار. ولكن، «يا خوفي إن كان هالرجعة بعد ما روح، متل ما صار مع أوديت»، تقول المرأة التي لم يعد لها من العمر «أكتر مما مضى». تبوح بخوفها، وتعود لـ«عابورة» الدمع التي لا تفارق العينين المتورمتين، كما عيون الكثيرات حولها.

تدرّب بعثة الصليب الأحمر الأطباء الشرعيين تحسباً لفتح المقابر الجماعية
لكن، من يحمي تلك العيون من المد، إن «كانت الدولة اللبنانية لم تصدّق إلى الآن على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري»، يقول الأمين العام لمركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب محمد صفا. ولهذا، يطالب صفا الحكومة بـ«التصديق على الاتفاقية ودمج هذه الاتفاقية في القانون الوطني اللبناني والتعاون مع الفريق العامل حول الاختفاء القسري في الأمم المتحدة وفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر للتحقيق بكل عمليات الاختطاف». ثمة دعوة أخرى للمجتمع الدولي لإيلاء القضية الاهتمام الجدي. كما حمّل صفا رئيس الحكومة سعد الحريري مطلباً آخر، يتعلق بتشكيل لجنة الحقيقة والإنصاف، على غرار ما جرى في جنوب أفريقيا والمغرب.
من جهتها، أشارت كريستين رشدان، مسؤولة قسم البحث عن المفقودين والصلات العائلية في بعثة الصليب الأحمر، إلى «أن من أولويات البعثة البحث عن المفقودين». وقد اندرج ضمن هذه الأولويات برنامج تعزيز القدرات الذي يهدف إلى التوعية ودعوة الهيئات المعنية بقضية المفقودين وأهالي المفقودين أيضاً «ليدخلوا الداتا اللازمة عن كل المفقودين في لبنان وتنظيم دورات للأطباء الشرعيين». وحول النقطة الأخيرة، أشارت رشدان إلى أنه «منذ 4 سنوات بدأت البعثة بتدريب الأطباء الشرعيين تحسباً لأي قرار بفتح المقابر الجماعية، كما طلبت من وزارة العدل إحصاءً للأطباء الشرعيين». لكنّ ثمة عائقاً في مسألة فتح المقابر «لأن فتح المقابر يحتاج إلى قرار سياسي، وما لم يكن هذا القرار، فالبعثة وحدها لا تستطيع فعل شيء». مهمة صعبة فعلاً، لكن، فلتفتح المقابر الآن وبعدها لكل حادث حديث.