سعيد خطيبي
الجزائر صيف 1993. البلاد تحيي الذكرى الأولى لاغتيال رئيسها الأسبق محمد بوضياف، وتشهد مقدّمات سلسلة من الاغتيالات التي شملت كتّاباً وصحافيين ومثقفين. في تلك الأوقات العصيبة والدامية، عاد نذير مخناش إلى الجزائر بعد غياب دام خمس سنوات، قضاها في رحلات مكّوكيّة بين عدد من الدول الأوروبية. «أذكر أنَّني عدت إلى الجزائر لأكتشف تغيّر الوضع العام في البلاد مثل الإجراءات الأمنية الجديدة وحظر التجوّل ليلاً».
يومها، لم يكن السينمائي الشاب قد تجاوز الثامنة والعشرين. لم يكن يتصوّر أنّ أيام الانفتاح والازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي في السبعينيات والثمانينيات، ستتحوّل فجأةً إلى أيام رعب وجحيم. «ملأت المرارة قلبي، وصدمت بالشكل الذي اتخذته الحياة اليوميّة». يردّد كلمة صدمة أكثر من مرّة... مضيفاً: «شعرت حينها برغبة في الكتابة. كانت تدور في ذهني جملة من الانطباعات والأفكار المبعثرة التي تجمّعت لاحقاً في سيناريو فيلم «حريم السيدة عصمان» في عام 2000».
السينمائي الذي ولد في باريس عام 1965 في عائلة من المهاجرين الجزائريين، أمضى طفولته وشبابه في الجزائر. في مطلع الثمانينيات، عاد إلى فرنسا لينال شهادته الثانويّة، ثمّ توجّه إلى دراسة الحقوق. لكنّه قطع دراسته الجامعيّة بعد سنتين، ليبدأ حياةً من الترحال والتنقّل، قادته إلى دراسة الفنون الدراميّة في «المسرح القومي في شايو» في فرنسا. وفي منتصف التسعينيات، التحق بأريان منوشكين في «مسرح الشمس»، ثمّ اشترى كاميرا «سوبر 8»، وصوّر أول أفلامه القصيرة. تابع تحصيله السينمائي في نيويورك في معهد New School for Social Research، حيث أنجز أوّل أعماله القصيرة «حنيفة» (1994) و«حديقة» (1995).
منذ ذلك الحين، استطاع نذير مخناش، سليل الجيل الثاني من المهاجرين في فرنسا، رسم تجربة سينمائية مختلفة وخاصّة، بقيت دوماً تثير ردود فعل متباينة بين معجب ومنتقد.
خلافاً لمرزاق علواش في فيلمي «باب الواد سيتي» و«العالم الآخر»، ويمينة شويخ في «رشيدة»، ينأى مخناش عن إعادة رسم الواقع سينمائياً. يفضّل تصوير المفترق الذي بلغته الجزائر خلال التسعينيات، وفق رؤية فنية تعتمد على الإشارات والرموز، بعيداً عن الخطابات المباشرة.
هذا ما لاحظناه في باكورته «حريم السيدة عصمان» (2000) الذي يحكي مشاعر الخوف والقلق وانعدام الثقة في جزائر عام 1993، من خلال التركيز على صورة السيدة عصمان (كارمن مورا). البطلة التي فقدت زوجها، تعاني من اضطراب نفسي ينعكس سلباً على علاقاتها بالآخرين، وخصوصاً ابنتها. تكتشف الأمّ أن ابنتها تعيش علاقة حب من دون علمها، ما يضاعف لديها المخاوف من فقدانها. اختار مخناش تصوير المرأة في مختلف تجلياتها، فطغى صوتها على مجمل الأحداث. «لست أدري كيف تملّكتني أفكار وتصورات عن النساء؟ لا أستطيع تفسير سبب التركيز على المرأة في كتابة السيناريو».
ثمّ يصمت قليلاً ويضيف: «أعتقد أن العامل النفسي أدى دوراً مهماً، خصوصاً أنني عشت يتيم الأب، وكنت قريباً جداً من أمّي».
باكورته «حريم السيدة عصمان» كان أيضاً بداية لشراكة فنيّة طويلة الأمد مع الممثلة الجزائريّة بيونة. تعرّف مخناش إليها مصادفةً في أحد مطاعم الجزائر العاصمة، قبل أن تتحوّل إلى وجه ثابت في أعماله. في «فيفا لالجيري» (2003) أدّت دور بابيشا، في شريط حمل طرحاً جريئاً، بين مشاهد إيروتيكيّة وحوارات تنتقد سياسة البلاد، وتذكر اسم الرئيس الجزائري بوتفليقة صراحةً.
تابع العمل يوميات ثلاث نساء مقيمات وسط الجزائر العاصمة، يشهدن نهاية الحرب الأهلية، وما يرافق ذلك من بروز سلوكيات اجتماعية مسيئة لكرامة المرأة وحقوقها.
نلاحق البطلات الثلاث في بحثهنّ الحثيث عن حريتهنّ، من خلال التحايل على المسلّمات الاجتماعية. عند نزوله في الصالات، أثار الفيلم لغطاً واسعاً في الجزائر، وانهالت عليه الانتقادات في الصحف المحليّة، فيما وصفه المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا بـ«أهم عمل سينمائي يتناول حقبة ما بعد الحرب الأهلية»، في بلد المليون شهيد.
لا يضجر نذير مخناش من أداء دور المشاكس. يميل إلى توظيف أسماء الشخصيّات بطريقة استفزازية نوعاً ما. فاسم بابيشا مثلاً يعني «امرأة جميلة وغانية»... لكنّه يفسّر خياراته بالقول: «استمدّ أسماء الشخصيات من اللغة العامية، لأنّ كلّ أعمالي تستمد حضورها من حياة الشارع».

بعيداً عن الخطابات المباشرة، صوّرَ دوّامة العنف التي غرقت فيها جزائر التسعينيات

انتقد الرئيس بوتفليقة في «فيفا لالجيري»... ومُنع فيلمه «ديليس بالوما» في بلد المليون شهيد

في عام 2007، حين كانت الجزائر تحتفل بكونها «عاصمة الثقافة العربية»، أطلّ مخناش بعمل جديد تحت عنوان «ديليس بالوما»، احتكرت فيه بيونة دور البطولة من جديد، في دور مدام ألجيريا. في هذا العمل، واصل مخناش مشروعه الأثير في تقديم مواقف ساخرة من القيود والضغوطات الاجتماعية، ما قاد القيّمين على قطاع الثقافة في الجزائر إلى منع عرض الشريط في صالات السينما، بحجة أنّه غير متوافر إلا عبر نسخة فرنسية. يردّ مخناش على عرّابي الرقابة في بلد المليون شهيد: «قدّمت الفيلم إلى وزارة الثقافة في نهاية 2007، بالنسختين العربية والفرنسية.
ويمكن أن يشهد على كلامي ياسين لعلاوي (منتج سينمائي) الذي تكفّل بنقل الفيلم إلى اللغة العربية. بالتالي، فإن حجة الرقابة غير صحيحة. الغريب في الأمر أني احترمت جميع شروط الرقابة، إذ طلبوا مني عدم إدراج «مشاهد خليعة» وكان لهم ما طلبوا.
كما أنّي تلقيت تسهيلات أثناء التصوير في مدينتي الجزائر العاصمة وتيبازة وبعض المناطق المجاورة. ثم، فجأة، ومن دون سابق إنذار، تقوم الجهات الرقابيّة بمنع الفيلم من العرض لأسباب واهية».
من خلال ثلاثيته السينمائية، يميل مخناش إلى وسم المرأة بصورة الضحية. «في اعتقادي، كانت المرأة دوماً ضحية. أرى أنّها ما زالت تقف في مواجهة جملة من المشاكل والعقبات، ولا تتمتع بحقوقها كاملةً. لكنّ التّعبير عن وضعية «الضحية» وتجسيدها في صورة المرأة ليس الغرض منهما الإشارة إلى المرأة كجنس بحد ذاته. الحقيقة التي أردت قولها هي أنّ الأفراد الأكثر ضعفاً هم الذين يدفعون الثمن في أغلب الأحيان».
ينظر السينمائي إلى «الفن السابع» في الجزائر من زاوية متشائمة. «يجب أن نقرّ بأنّ الجزائر لا تمتلك سينما حقيقية، ولا تمتلك حتّى الإرادة في تأسيس عمل سينمائي جدّي»، يقول مضيفاً «هنالك فقط محاولات فردية، لكنّها تظل بعيدةً عن المبتغى». أخيراً، وضع نذير مخناش اللمسات الأخيرة على سيناريو فيلمه الجديد، ويعمل من باريس على بدء تصويره. حين تسأل الرجل عن رؤيته لمستقبل الجزائر، يرى أنّ الوضع يتشكَّل وفق رؤية درامية. «خرجنا من دوامة العنف التي دامت سنوات، لكنّ الحال لم تتغيّر كثيراً، بل إن الوضع يزداد سوءاً يوماً بعد آخر».


5 تواريخ

1965
الولادة في باريس لعائلة من المهاجرين الجزائريين

1995
تخرّج من معهد New School for Social Research في نيويورك، حيث أنجز أوّل أفلامه القصيرة «حنيفة» (1994) و«حديقة» (1995)

2000
أنجز باكورته الروائيّة الطويلة «حريم السيدة عصمان»

2007
مُنع فيلمه «ديليس بالوما» من العرض في الجزائر

2010
أنجز سيناريو فيلمه الجديد، وسيبدأ تصويره قريباً