ليس المرض وحده ما يجمع التلامذة في مركز سرطان الأطفال في لبنان، بل إنّ الجميع هنا في المركز مصمّم على النجاح رغم الألم. على أحرّ من الجمر، ينتظرون لحظة الشفاء لاستئناف الرحلة نحو مستقبل قاطعه المرض بفظاظة
فاتن الحاج
لا يتردّد طارق عبد الحق (18 سنة) في رواية تفاصيل حكايته مع مرض السرطان. «هوّي إجا لعندي ومش أنا جبتو»، هكذا يبدو طارق متصالحاً مع «مرحلة قطعتها وما بستحي فيها»، كما يقول. هو يتذكّر بألم الأوقات «العصيبة» التي أمضاها في علاج «الكيمو»، وذلك الدواء الغريب الذي يضعونه في جهاز خاص مع كل ما يسببه من تعب و«لعيان» نفس وانحطاط في الجسم، تماماً كما يتذكر بفرح كيف اجتاز الثانوي الثاني بنجاح «وما خليت ولا صف يروح عليي رغم كل الوجع اللي عندي». لكن مع كل هذه الثقة بالنفس، لا يخفي الشاب تخوّفه من الامتحانات الرسمية هذا العام، وإن «كنت أقوم بما علي القيام به». هنا يستطرد طارق قائلاً: «لا يشعر المرء بالنعمة إلّا حين يفقدها، فالوقت مقدس ولا مكان للطيش». طارق آثر عدم العودة إلى مدرسته هذا العام، على الرغم من إنهائه فترة علاج المرض الذي أصابه في الجيوب الأنفية، وخضوعه حالياً للفحوص لمجرد المراقبة والاطمئنان، على حدّ تعبيره. هو يريد أن يتأكد أنّه شفي تماماً و«المرض مش رح يرجع كما حصل مع زملاء لي».
هكذا، يتابع الطالب في الثانوي الثالث، للسنة الثانية، دروسه خارج جدران المدرسة. ينخرط في البرنامج التعليمي الخاص في مركز سرطان الأطفال في لبنان، لعلّ النجاح يحقق حلمه بدراسة ميكانيك الطيران.
مر عيسى (17 سنة) التحق أيضاً بالبرنامج الخاص بعدما عجز عن التوفيق بين أوقات العلاج وأوقات المدرسة، إذ «لازمت المستشفى 23 يوماً في الفترة الأولى». يلفت عمر إلى أنّ مدة البرنامج في المركز تستمر 12 شهراً، إذ «يجري تكثيف للدروس فلا نأخذ إلّا المحاور الضرورية التي تفيدنا في الامتحانات، كما يحضرون لنا أوراقاً تتضمن أسئلة قصيرة تساعدنا على استيعاب المواد». لا تزال علامات المرض والتعب بادية على وجه عمر، الذي يحتاج إلى سنة ونصف سنة إضافية لإنجاز علاجه. يقول: «أنتظر هذه اللحظة على نار لأنصرف إلى مستقبلي، حيث ما زلت محتاراً بين اختصاصي الصيدلة والهندسة».
أمّا بهاء المصري (15 سنة)، فكان يمارس الرياضة حين شعر بألم شديد في ظهره، وكان حينها في السادس الأساسي. «بلشت أعرف إنو في شي اسمو سرطان لمّا وقعت فيه»، يقول بهاء شارحاً بثقة «كيف كان أقوى من المرض ومن أهله الذين خافوا عليه كثيراً». هنا يتدخل حسان الداعوق، مسؤول البرنامج التعليمي في المركز، ليقول إنّ بهاء كان ذكياً بما يكفي ليتابع دروسه في الصف مع أترابه، وفي منزله بمساندة أهله، وينجح في صفوفه «ولم يحتج إلينا سوى هذه السنة حيث سيتقدم لامتحانات البريفيه».
لا يزال الداعوق يذكر جيداً ذاك اليوم من تشرين الأول عام 2004، حين شاهد حلقة تلفزيونية عن المركز أعلنت خلالها كريستيان مكارم، مسؤولة فريق المتطوعين، الحاجة إلى مساعدة الأطفال المصابين في التعليم. هكذا عرض الداعوق خدماته كمتطوع ولا يزال كذلك، كما يقول. اكتشف الرجل منذ اللحظة الأولى لتسلمه المهمة أنّ الطلاب الذين يخضعون لفترات طويلة من العلاج غير قادرين على متابعة المناهج الرسمية، ويحتاجون إلى تكييف الامتحانات بما يتناسب مع وضعهم النفسي ومناعتهم الضعيفة. ومع الوقت، وجد المسؤولون في المركز أنّ التلامذة المرضى يحتاجون إلى مكان خاص لتقديم الامتحانات الرسمية، فاقترحوا على وزارة التربية أن يُمتحن الأولاد في مستشفى الجامعة الأميركية. وهكذا كان، حيث باتت الوزارة ترسل كل عام فريقاً خاصاً من المراقبين والمصحّحين. هنا يقول الداعوق «إننا نرفض الإعفاء ونصر على الامتحان للتأكيد أنّ أطفالنا يستحقون الشهادة الرسمية عن جدارة». لكن ما لم يستطع المركز تحقيقه هو صياغة مناهج خاصة بمرضى السرطان تُختزل فيها كل المحاور غير المفيدة. وفي هذا الإطار، يؤكد الداعوق «أننا أعددنا مشروعاً في هذا الخصوص تقدّمنا به إلى المركز التربوي للبحوث والإنماء من دون أن يصل إلى خواتيمه بعد». من هنا، يخشى الداعوق أن يبقى مستقبل هؤلاء الأطفال بين أيدي متطوعين، فهؤلاء يحتاجون، في رأيه، إلى رعاية الدولة.
الدولة، كما يقول حسان ملك، رئيس دائرة الامتحانات الرسمية التابعة لوزارة التربية، التفتت إلى المصابين بأمراض ضعف المناعة منذ عام 2001، أي قبل التنسيق مع مركز سرطان الأطفال عام 2004 ـــــ 2005. في تلك السنة، ثلاثة طلاب تقدموا للامتحانات في مستشفى المقاصد ونجحوا، لكنّ أحدهم فارق الحياة قبل أن يتسلّم شهادته الرسمية. أما الاتفاق مع المركز، فسمح بحسب ملك، بتحويل كل الحالات التي تقصد الوزارة إلى مستشفى الجامعة لإجراء امتحاناتهم. لكن الداعوق يقول إنّ التلامذة الذين لا يتلقّون العلاج في المركز يعلمون بذلك، بالصدفة، «لذا من المفيد أن يعلن الوزير ذلك رسمياً كل عام».
هنا، يوضح ملك أنّه «ليس لدينا إحصاءات بعدد المصابين لكنّنا لا نتأخر عن مساعدة كل من يأتي إلينا، وهؤلاء بلغ عددهم 3 طلاب في 2001، طالباً واحداً في 2002، طالبين اثنين في كل من 2004 و2005، 11 طالباً في 2006، و24 في 2007، و13 في 2008، و20 في 2009، وقد تقدّم 3 طلاب حتى الآن لإجراء امتحانات 2010 في حزيران المقبل». ويشرح ملك كيف طوّرنا الآلية لتراعي كل الحالات، فالبعض يضطر إلى إجراء امتحاناته في السرير، ومنهم من يتعب فجأةً ويقع في غيبوبة أثناء الامتحانات. ولا يخفي ملك الإعداد لمشروع كبير يقضي بتعديل مرسوم امتحانات ذوي الصعوبات التعليمية ليشمل كل حالات الإعاقات وأمراض ضعف المناعة.


التطوع في التعليم

هنا، في مركز سرطان الأطفال يحتاج الأولاد إلى أن يعيشوا طفولة طبيعية تترافق مع حياة دراسية عادية. «لذا، فالتطوع في مكان كهذا فريد من نوعه، ويختلف عن المستشفيات الأخرى»، كما تقول كريستيان مكارم، مسؤولة فريق المتطوعين. لكن ما تلاحظه مكارم هو أنّ طلبات التطوع لمساعدة الأطفال في التعليم قليلة جداً، ولا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. أما في المجالات الأخرى، فيراوح عددهم بين 70 و80 متطوعاً. فالمتطوعون يتحمّسون، في رأيها، لتنظيم حملات للتبرع بالدم في جامعاتهم، أو المساعدة في الأعمال المكتبية. هم يستمتعون بالوقوف إلى جانب المريض وعائلته، ومشاركة الأولاد في إحياء المناسبات والأعياد.