لم يخرج كتاب التاريخ إلى النور رغم مرور 20 سنة على فرض وثيقة الوفاق الوطني توحيده «تعزيزاً للاتحاد والانصهار الوطنيين». لكن لماذا لم يُتفق على كتاب واحد لتاريخ لبنان؟ وهل من المفيد أصلاً توحيد كتاب التاريخ، وخصوصاً في هذه الظروف «التوافقية»؟
فاتن الحاج
إجماع اللبنانيين على كتاب تاريخ، لا شك في أنه حلم وطني بامتياز. لكن هل نتحدث عن إجماع الناس أم السياسيين؟ عن السياسيين أم الموجودين في السلطة؟ الجواب عن هذه الأسئلة هو ما يحدد خريطة طريق فهم تصريحات د. حسن منيمنة، وزير التربية، في ما يخص الورشة التي أطلقها لوضع كتاب التاريخ. فمن هم في السلطة، هم أطراف كانوا أكثر من فاعلين في التاريخ المعاصر للبنان. ورواية ما حصل في هذه الفترة، مختلف على تأويلها حتى اليوم، لذلك هناك «توافق». والتوافق يعني التسوية. والتسوية تعني أن ترمي جزءاً من الحقائق. فهل هذه هي الطريقة السليمة لوضع كتاب تاريخ؟
يرى المؤرخ سيمون عبد المسيح أن تحقيق رضى اللبنانيين كافة، أي إجماعهم «قد يوفّره المنهج العلمي الذي يسعى إلى الاقتراب من الحقيقة التاريخية، لا ما تفعله لجان كتاب التاريخ الرسمية». يضيف: «غالباً ما تأتي الحقيقة متناقضة مع التسويات المتوافق عليها، ما يعني أنّ الأهداف الوطنية وحدها لا تكفي لكتابة تاريخ موحد، وخصوصاً إذا كانت تخدم إيديولوجية النظام. لذا، فالأولوية في وضع منهج التاريخ يجب أن تُعطى لتكوين التلميذ المتنور والمتسلح بالفكر النقدي، للانتقال به إلى مرحلة يصبح فيها هو المتحري والمخبر عن الماضي، فيبحث عن الحقيقة التاريخية، بعيداً عن التشريب عبر الكتاب والأستاذ».
هذه الأفكار هي بعض ما ساقه د. عبد المسيح، أستاذ في كلية التربية ـــــ الفرع الثاني في الندوة التي نظمها قسم تعليم العلوم الإنسانية والاجتماعية، تحت عنوان «أزمة التاريخ منهجاً وكتاباً مدرسياً»، الأسبوع الماضي.
مناسبة الندوة تجدُّد الحديث عن كتاب التاريخ المدرسي وإطلاق وزير التربية د. حسن منيمنة عمل لجنة كتاب التاريخ الموحَّد.
لكن لعبد المسيح رأي في تكوين اللجنة التي لم تضمّ أحداً من كلية التربية، فجاءت «مزيجاً من المحاصصة المرتبطة بقوة مجموعات الضغط السياسية من جهة، والكفاءة من جهة ثانية»، ورأى أنّ في هذا استبعاداً لموقع كلية التربية في القرار التربوي، بعدما أصبحت مجرد مكان للإعداد الظرفي للمعلمين المتعاقدين لدخول ملاك التعليم الرسمي. لذا، انتقد عبد المسيح غياب تمثيل الكلية في اللجنة. أما وجود أحد أساتذتها في اللجنة، فلكونه يمثّل أحد التيارات السياسية، لا الكلية ليس إلا. وهل كان رأيه يتغير إن كان هو في اللجنة؟ نسأل، ويرد بجدية: «موقفي هذا لن يتغير، ولو كنت في اللجنة لقلت هذا النقد داخلها».
وسجّل الباحث عبد المسيح ملاحظات في شأن المنهج الأخير لمادة التاريخ، الذي يتوقع أن تبني عليه اللجنة الجديدة، باعتبار أنّها لن تنطلق من الصفر كما سبق لوزير التربية أن صرّح عند تأليفها. هذا المنهج نشر في الجريدة الرسمية في حزيران 2000، من دون أن يخرج إلى النور بعد إجهاضه من الداخل، وإيقاف العمل بكامل مشروع تأليف الكتاب المدرسي الموحد في شباط 2002، وإيداع مخطوطاته أدراج المركز التربوي للبحوث والإنماء.
من السمات التقليدية للمنهج، بحسب عبد المسيح، أنّه ما زال «منهجاً معرفياً» أو «منهج محتوى» لم تنقله الأهداف التعليمية إلى المستوى الذي يتقاطع فيه مع التوجهات الحديثة للمناهج، التي أصبحت «ذات منحى طرائقي وتتجه لتحقيق كفايات»، وخصوصاً في التعليم الابتدائي.
هكذا، يغيّب هذا المنهج، في رأيه، التطورات التي حدثت في المعرفة التاريخية ومناهجها من جهة، وفي النظريات التربوية وعلم «الديدكتيك» من جهة ثانية.
لا يجزم الرجل بأنّ الصورة ستتغير إذا ما كانت اللجنة من أساتذة الجامعات. فهو واثق من غياب مفهوم المعلم ـــــ الباحث، وانقطاعه عن تجديد المعرفة الأكاديمية. ورغم النقد الذي تعرض له تدريس التاريخ السياسي والعسكري، فإنّ المنهج الجديد لم يتجاوز، بحسب عبد المسيح، هذا المنحى في اتجاه تدريس تاريخ اجتماعي ـــــ اقتصادي وثقافي، والانفتاح على العلوم الإنسانية الأخرى، ولا سيما علم النفس التربوي، إلاّ في محاور محدودة لا تعكس ثورة حقيقية.
يقول مستشهداً بمدرسة «الأنال» أو الحوليات الفرنسية: «في العقود الأخيرة، لم يعد هناك شيء خارج نطاق اهتمام التاريخ وليس لتوسعه حدود، نكتب تاريخ الكرة الأرضية والسماء والأشياء والأحياء والمسافات الزمنية والأمكنة، تماماً كما نكتب تاريخ النقد واللغات والأزياء والمذاهب والأعياد وتاريخ الجنس».
يضيف: «التاريخ هو معرفة شاملة كلية وعقلانية للمجتمعات المختلفة في حركيتها، فلا يترك شيئاً خارج حقله، وهذا ما يصنع حيويته وما يدفعه إلى مراجعة أهدافه وأهمية تحديثها».
يرفض عبد المسيح إعطاء قدسية للكتاب المدرسي «الذي يجب أن يركّز على التاريخ الإشكالي لا السردي، أي أن يضم وجهات نظر مختلفة وقضايا خلافية تثير الجدل». يسأل هنا: «لماذا تقوية وجهة نظر على أخرى في حدث تاريخي، ما دامت مصالح الطوائف تتغير من مرحلة إلى أخرى؟ حتى في المجتمعات التي تبدو متجانسة هناك خلاف على الحدث التاريخي. فالثورة الفرنسية مثلاً كانت ميدان جدل بين

اللعبة الطائفية هي ما يسيطر، لا جودة الكتاب المدرسي
المؤرخين، وحاول البعض طمس بعض القيم التي نادت بها».
أما ما يخشاه عبد المسيح، فهو أن يدخل الأساتذة الجامعيون مجدداً في الهمروجة السياسية والجدل الإيديولوجي الذي كان سبباً في حل لجان منهج التاريخ السابقة، ومحاولة إقامة توازنات ظاهرية هدفها إرضاء أطراف رئيسية في السلطة السياسية، وإنتاج تاريخ رسمي، فيما تنشأ في الظل تواريخ عائلية وشعبية. هذه النقطة يوافق عليها د. فارس توا، أستاذ التاريخ في الكلية، الذي دعا إلى إعادة النظر في النص الدستوري الذي يقر توحيد كتاب التاريخ «فالحديث عن الانصهار، الذي يستخدم في الأغلب للمعادن، لا يتناسب مع التوجهات العالمية الجديدة. ثم كيف يُبني مواطن جديد بواسطة كتاب موحد يتضمن التاريخ السعيد الذي لا يعني شيئاً، فيما تعطي كل مدرسة منهجاً خفياً؟». أما د. خليل جمال، أستاذ سوسيولوجيا التربية، فقد سأل عمّا إذا كان الناس الذين يطالبون اليوم بتوحيد الكتاب هم أنفسهم الذين ينادون بإلغاء الطائفية السياسية، مستخلصاً أن «اللعبة الطائفية هي ما يسيطر، لا جودة الكتاب المدرسي».
لكن ذلك لم يكن رأي كل من شارك في الندوة. فرئيس القسم د. ضومط إسحق بدا مقتنعاً بأنّ «الجميع متفقون على أنه لا وطن من دون وحدة وطنية، ولا وحدة وطنية من دون وحدة التوجهات الثقافية والتربوية، ولا توجهات واحدة من غير الاتفاق على قراءة واحدة للتاريخ».


منيمنة: الخروج بكتاب تاريخ يحظى برضى اللبنانيين

يكشف مكتب وزير التربية، حسن منيمنة (الصورة)، عن أنه لم يصل إلى الوزير أي احتجاج على عدم ضمّ لجنة كتاب التاريخ «ممثلاً» لكليّة التربية، لأنّ فكرة الاستبعاد ليست مطروحة أصلاً، باعتبار أنّه ما من نص قانوني يلزم وجود الكلية، وإن كان الوزير يتمنى الاستنارة بأساتذتها. وفي الأجواء، إنّ إنجاز المنهج بمراحله كلها لن يستغرق وقتاً طويلاً، لكون نقاط الخلاف ليست كبيرة.
وكان الوزير المؤرخ قد استفاد «من اللحظة السياسية التوافقية لإعادة إحياء لجنة كتاب التاريخ الموحد»، كما قال خلال إطلاقه عمل اللجنة، إذ «ستحاول اللجنة أن تعيد تقديم كتاب التاريخ بصورة يتفق عليها اللبنانيون كافة»، مراهناً على كتاب يساهم في تكوين شخصية التلميذ اللبناني. ويأمل الوزير أن تخرج اللجنة بكتاب تاريخ يحظى برضى اللبنانيين.