بينما كانت مكبرات الصوت في مئذنة جامع التوجيه في طرابلس ترتفع بالدعوة إلى أذان العشاء، اختلط القادمون إلى المسجد، رجالاً ونساءً، عند مدخله. ثم انقسموا إلى جزأين: جزء دخل ليؤدي صلاة العشاء، والجزء الثاني توجّه إلى قاعته في الطبقة السفلى، حيث نُظمت ندوة بعنوان «لمصلحة مَن تهجير المسيحيين العرب؟»
طرابلس ــ عبد الكافي الصمد
هي ليست المرة الأولى التي تستضيف فيها طرابلس في قاعات مساجدها التي تتكاثر سنوياً، نشاطاً عن «المسيحيين العرب»، لكن النشاطات كانت في السنوات القليلة الماضية ذات لون واحد، للمتحدثين والحضور. وطرابلس بحياتها لم تكن من لون واحد. اللون الواحد الممل، المنغلق، الذي لا يُمتع عيناً ولا عقلاً. فطرابلس كانت في السنوات التي أعقبت الحرب الأهلية تتمتع بحيوية لافتة، ندوات ومعارض وأفكار... إلى أن جاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فانقطع كل شيء: وكل عاد إلى قوقعته منغلقاً على نفسه ومبتعداً عن الآخرين. أصبح الاحتقان الطائفي والمذهبي سيد الحياة في عاصمة شمال كانت ذات يوم فيحاء.
مساء أول من أمس تغيّر المشهد. فالمدعوون إلى المشاركة في الندوة، وخصوصاً من خارج طرابلس، ينتمون إلى تيارات سياسية معارضة، كان مجيئهم قبل مدة إلى طرابلس محفوفاً بالمخاطر، لا بل إن بعضهم فضّل ألا يأتيها، وإذا اضطر كان يفعل ذلك خفية وعلى نحو شبه سري.
هذه المرة كان الأمر مختلفاً. فالمحاضرون، وهم سياسيون، أتوا إلى طرابلس بلا مرافقة أمنية. فالنائب السابق ناصر قنديل حضر باكراً إلى المدينة وتجوّل في شوارعها، مستعيداً حضوره السابق إلى المدينة كل شهر تقريباً. أما عضو المكتب السياسي في تيار المردة، فيرّا يمين، فنزلت قبل الموعد من زغرتا لتتناول القهوة في أحد المقاهي، قبل أن تقطع بعض المسافة إلى مكان الندوة مشياً، فيما كان منسّق التيار الوطني الحر، بيار رفول، لا يخفي حبوره للحضور إلى هنا.
داخل القاعة كان الحضور متنوعاً، متناغماً ومتجاوباً مع مداخلات المحاضرين. إلا أن انعقاد ندوة تتطرق لمصير المسيحيين العرب في قاعة مسجد، هيمن على كل مقدمات كلام المحاضرين، من رئيس «المركز الثقافي»، عبد الله خالد، الذي رأى في ذلك عودة إلى «نكهة طرابلس التي لا يعرفها إلا من خبرها، ألا وهي التعايش»، وإشارة رفول إلى أن «اللقاء يعقد في مكان مقدس عند المسلمين لنتحدث فيه عن المسيحيين»، واعتبار قنديل أن «مبادرة عقد الندوة جاءت في التوقيت المناسب، لتعبّر عن شجاعة المسؤولين عن مجمع التوجيه لتبنّي هذه المبادرة ـــــ الرسالة، ولتقول إن هذه هي الطريقة لإحياء مضامين العيش المشترك، وهذه هي رسالة طرابلس التي تأتي على مسافة قريبة من 6 شباط، ذكرى توقيع وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر، وهي مناسبة لنعلن من هنا ولادة تجمع وطني جامع للخروج من العصبيات المقيتة».
غير أن إمام وخطيب المسجد، الشيخ غالب سنجقدار، الذي آثر التحدث واقفاً فيما جلس الضيوف على مقاعد المنصة الرئيسية، أشار إلى أنه «وافقنا على إقامة الندوة في هذه القاعة للتنبيه إلى خطورة الموضوع، لأنه في لبنان شعارات لا مضمون لها، ومزايدات وتجار سياسة ودين ومذهب، وهذا أمر نحاربه ونمقته»، مشيراً إلى أنه «تعلمنا من حروب لبنان دروساً نتمنى ألا تتكرر، لأن الله للجميع، وهو لا يريد سعادة طائفة على حساب أخرى، ولأن ديمومة لبنان هي التعايش».
إثر ذلك تناوب الحضور على إلقاء كلماتهم التي قوطعت مراراً بتصفيق الحضور، فرأى مسؤول الإعلام في حزب التحرر العربي الموالي للرئيس عمر كرامي، المحامي وسيم نابلسي، أنه «نجتمع اليوم لنبحث مسألة تهجير المسيحيين العرب، وهذا يعني أننا ما زلنا نعاني غياب المواطنة»، مشيراً إلى أن «الخارج لا يريد للمسيحيين أن يكونوا مواطنين عرباً، بل يريدهم أقليات معزولة حتى يهجّرهم، غير عابئ بما قد تنتجه سياساته في منطقة قد تجد في المسيحيين العرب وقوداً».
أما يمّين، فبعد استعراض تاريخي عن دور المسيحيين في الشرق، أشارت إلى أن ذلك «ضوء على التاريخ لنستقي منه ونستحضره لنطرح السؤال: من المستفيد من تفريغ المنطقة من مسيحييها؟»، مشيرة إلى أن المسيحيين العرب «يقفون عائقاً أمام تحويل المنطقة إلى دويلات طائفية ومذهبية لا حول لها ولا قوة أمام الدولة العنصرية، الخائفة دوماً من منطقة متنوعة قادرة على البناء والتطور بحكم الغنى الثقافي والديني غير المتعصب، بل الديني المنفتح انسجاماً مع الرسالات السماوية»، لافتة إلى أن الإدارة الأميركية والصهاينة «اخترعوا ما سمي المواجهة السُّنية ـــــ الشيعية، فيضيع المسيحيون ويفقدون

وافقنا على إقامة الندوة في هذه القاعة لخطورة الموضوع
التوازن، فيهاجرون أو يهجَّرون، وينزحون أو يستنزفون».
رفول التفت إلى فلسطين «فالحضور المسيحي هناك يتراجع كل سنة، فبعدما كانوا يمثّلون قبل نشوء إسرائيل 20% من سكانها، باتوا اليوم يمثّلون أقل من 2%. أما تهجير مسيحيي العراق، فمسؤول عنه الاحتلال الأميركي»، مؤكداً أن «مصيرنا هو التآخي في السراء والضراء، وعلينا ألا نكون حصان طروادة في لبنان والمنطقة وأن نهتم بقضاياها، وأن ندافع عن الإسلام ونبعد عنه تهمة الإرهاب، وأن ندحض مقولة إسرائيل أنه لا يمكن التعايش بين الأديان والحضارات، وأن المسلمين والمسيحيين يستطيعون مشتركين أن يقدموا عبر لبنان نموذجاً رائداً للتعايش».
بدوره، رأى قنديل أن «تحول الخلاف إلى صدام وجودي له معانٍ أخرى، وخصوصاً أن مسألة المسيحيين العرب مختبرها الأخصب والأفعل هو لبنان، ولا يمكن الوصول إلى خطر التهجير من دون حرب أهلية، ودور الغرب هنا يكون في صناعة هذه الحرب، لأنه إذا لم يكن هناك حرب أهلية، فلن يكون على المسيحيين وغيرهم خطر جودي».