البترون ــ عمر حبيبمن دون دعوة، يُقفل الناس أبواب منازلهم ومحالّهم التجارية. يغادرون مراكز أعمالهم، ومثل كرة الثلج، يصيرون موكباً. عندما تحزن مدينة البترون، تُمسي قريةً. الجميع يسمُّونه الآن «ألبير». يعرفونه أو هم باتوا يعرفونه. ظُهر أمس، صارت البترون شخصاً واحداً، جمهوراً متراصَّاً عند مدخل المدينة، والعيون شاخصة جنوباً. فرداً فرداً كانوا هناك. الثانية عشرة والربع، علا التصفيق والزغاريد والصيحات المفجوعة. وصل «الريِّس ألبير» بنعشه الأبيض، وصعد إلى مركبه المفضَّل، الأبيض والأحمر، الذي زُيّن بالورود للمناسبة. تقدَّمت «الفلوكة» في بحر ملابس سوداء، وكلما قطعت أمتاراً قليلة، استُقبلت بوابل جديد من الأرزِّ والورود والتصفيق والأسهم النارية. أما أفراد العائلة الصغيرة، فلم يرفعوا أيديهم عن المركب.
تقلا، زوجة ألبير، اقتنعت أخيراً بأنه عاد، وجهها في قميص له تحمله بحبٍّ، تبكي تارةً وتقبِّل ابنها تارة، وهو غاضب وحزين، ينظر إلى السماء. 1500 متر في ساعة من الزمن، حتى كنيسة مار اسطفان، والمطر يتردَّد في الهطل. نقاط قليلة ثم يتوقَّف. أمهلَ الجنازة حتى النهاية. مرَّ الموكب أمام الكنيسة، لكنه لم يتوقَّف، عرَّج على البحر ومنزل ألبير ليلقيا على الفقيد نظرة أخيرة. الوزير جبران باسيل، ابن البترون وصديق ألبير، رافق الموكب حتى النهاية، وتقبَّل التعازي مع العائلة. ثم وصل النائب روبير فاضل ممثِّلاً الرؤساء الثلاثة. كذلك حضر الوزير بطرس حرب والنائب أنطوان زهرا.
السفير الفرنسي في لبنان، دني بييتون، الذي لا يزال ينتظر عودة زوجته مارلا، ضحية حادثة الطائرة إياها، كان هنا، يواسي البترون لعلَّها تواسيه.
في سيارة واحدة، وصل نائب طرابلس، ابن قضاء البترون، سامر سعادة وجويس عقيلة الرئيس الأسبق أمين الجميل. قداس وصلاة ومعظم الناس خارج الكنيسة بعدما غصَّت بهم. انتهى التشييع، وتقبَّل الأهل والمقرَّبون التعازي، وانتقل ألبير إلى مدافن المدينة، ماراً للمرة الأخيرة أمام البحر الذي أحبَّه حتى الموت.
انتهت إحدى مراحل حادثة الطائرة بالنسبة إلى آل عسَّال، لكنَّهم لن يستريحوا إلا بعد أن يعرفوا لماذا فقدوا ألبير.