بدأت ملاحقة قادة إسرائيل قبل عقد، حين هدّد إيهود باراك بجعل بيروت مظلمةً. وكرّت سبحة الدعاوى القضائية: بعضهم اتهمها بحبّ الأضواء، والبعض الآخر نعتها بالجنون... لكنّ المحامية اللبنانية تواصل معركتها دفاعاً عن القضايا العادلة
منهال الأمين
«بسعادة لا تُوصَف!» تلقّت مي الخنسا قرار القضاء البريطاني بتوقيف تسيبي ليفني ـــــ وزيرة خارجية إسرائيل خلال حربَي تموز 2006 وغزة 2008... «هذا يدعم موقفي في الدعاوى التي رفعتها في إسبانيا ومحكمة العدل الدولية في لاهاي»، تقول. ليفني من أولئك «الطغاة» كما تسميهم الخنسا الذين لم ولن توفّرهم من ملاحقتها القضائيّة. هكذا، قاضت ليفني بصفتها الشخصيّة في قضية حق العودة للشعب الفلسطيني، على أثر مطالب الوزيرة الإسرائيليّة بترحيل مَن بقي من عرب داخل «الخط الأخضر».
قصة المحامية مي الخنسا مع مقارعة قادة العدو بدأت قبل عقد من الزمن حين هدد إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي يومذاك، بجعل بيروت مظلمةً. يومها، سألها ابنها ببراءة: «ماما ارفعي عليه دعوى وخدي ع الحبس». كانت كلمات طفلها تلك كـ«صفعة أيقظتني من تقصيري في قضايا تستحق أن أركض وراءها أنا المحامية»، تقول. لم تنم تلك الليلة. وفي الصباح، كانت الدعوى على مكتب المدعي العام.
يومها، اتهمها بعضهم بالسعي إلى الأضواء، حتّى إنّ محسني الظن نعتوها بالجنون. هكذا اكتشف الصغيران، ربى وناصر، نزعة أمّهما لتبني قضايا مستعصية أو يائسة، لكن محقّة: «أنا لا أتبنى قضية لا أؤمن بعدالتها». لقد ورثت هذا «العناد المهني» عن والدها، صبحي، الطبيب البيطري في السلك العسكري. في عهد الرئيس كميل شمعون، كتبت الصحف عن ذاك الطبيب العنيد الذي داوى حصان شمعون، خلال عودته بالبحر من البرازيل، بعدما يئس من شفائه الفريق الطبي المرافق.
تبنى رئيس الحكومة سليم الحص القضية التي رفعتها الخنسا على باراك، وشجعها على رفع دعاوى في الجرائم الإسرائيليّة التي ارتُكبت منذ عام 1948، لكنّها فوجئت بفقدان المحاضر. طلبت شهوداً ونظّمت محاضر جديدة، وهكذا شُغِلت مخافر لبنان بالدعوى، «لكن العمل توقف نتيجة ضغوط سياسية». إلا أن أصحاب الحقوق لم يتراجعوا، وصارت الخنسا وكيلة لمئة وخمسين لبنانياً وفلسطينياً. رصيدها حتّى الآن: حكما إعدام بحق شارون وبيريز، اتخذهما القاضي محمد بري عن مجزرة النبطية... «والحبل على الجرار»، تقول. «هناك عشرات القضايا قيد التحقيق»، وخصوصاً أنّها رفعت دعاوى أمام القضاء الإسباني في جرائم حربَي تموز وغزّة. تجدها غير مبالية بما تتلقاه من نصائح المحبين بالتروي، أو تهديدات المبغضين بالقتل... كل ما يهمها «أخلاقيات المهنة».
ادعت على رئيس الهيئة التنفيذيّة في القوات اللبنانيّة سمير جعجع «بالقانون لا بالنكاية أو بدافع سياسي» على حد تعبيرها، وخصوصاً في قضايا تسليم شباب لبنانيين إلى العدو الإسرائيلي، وفي جريمة قتل سمير زيون: «قانون العفو يسقط عن أي إنسان يُدان بارتكاب جريمة ثانية. وإذا شمله القانون، فعقوبته تُخفَّف من الإعدام إلى المؤبد». السيدة التي تترأس حالياً «جمعية عدم الإفلات من العقاب»، تروي ضاحكة كيف سخر أحد البرامج الفكاهية منها، لأنها لا توفّر أحداً من دعاواها. ترفض في المقابل نعت قضاياها بالخاسرة، أو بـ«مضيعة الوقت». هكذا، غلبت السياسة على قضاياها، فهي لا تقبل دعاوى أحوال شخصية «مع أنها مربحة كثيراً»، لأنها «تخرب البيوت... الحياة الزوجية يجب أن تبقى داخل أربع حيطان». لهذا قد تتحاشى الخوض في تفاصيل حياتها العائلية، رغم أنّها تؤكد أنّ اهتمامها يصبّ في اتجاه بيتها أكثر من أي شيء آخر: «لأن الفاشل في بيته، لن ينجح خارجه مهما توهّم». من هذا المنطلق، سكنت وعملت في المبنى نفسه سنين طويلة لتكون قريبة من زوجها وولديها.

نشأت في منطقة الأوزاعي، حيث منزل العائلة الذي دمّره الاجتياح الإسرائيلي عام 1982

تلقّت بفرح قرار القضاء البريطاني بتوقيف تسيبي ليفني

نشأت مي في حي الخنسا في منطقة الأوزاعي، حيث منزل العائلة وأملاكها التي دمّرها الاجتياح الإسرائيلي عام1982. هناك فقدت «الكثير مما يؤسف عليه»: وثائق لوالدها، وقصائدها، ومسرحيات الرحابنة، ومسجّلة وجدتها محروقةً كانت سلواها في الليالي. تتحفظ على كثير من ذكرياتها، بتأثير من الجو المحافظ للمحيط، وهو جوّ معاكس لما عاشته في أسرتها. أبوها كان «متحرراً، لم يفرض علينا أي قيود، بل كان يفضّل اتباع بعض الأخلاقيات». طرقت مي باب الشعر باكراً، لكنها لم تجرؤ على نشر قصائدها في مجلة «الحسناء» مطلع السبعينيات باسمها الحقيقي، بل وقّعتها باسم «حرية».
والدتها الملتزمة دينياً، ربّت بناتها على تفضيل القيم على المظاهر، ومنعتهن من ارتداء القصير، من دون أن تفرض عليهن أي شعائر دينية لناحية الصلاة وارتداء الحجاب. كان هذا الأخير رغبة مي حين كانت في الثالثة عشرة من عمرها، وكان لها معه صولات وجولات. تحجّبت مرة ثم تركت «لأن المحيط فرض علي حصاراً جعلني أخشى طلوع النهار»، لكنّها وجدت لاحقاً في الإسلام «متنفساً لا قيداً»، وقررت أن تتحجب من جديد، فحذرها بعضهم من إمكان تأثير ذلك على عملها. كان ابنها في الخامسة من عمره، حين طلبت منه اختيار ثياب حجابها الأولى... لكنّ القصّة لم تمرّ ببساطة، وخصوصاً في قاعات المحكمة، إلا أنها واجهت الأمر بقوة. اتهمها بعضهم بالقبض من جهات معينة لإحداث ضجة إعلامية من خلال حجابها، لكنّها تصرّ: «الحجاب زادني ثقة بنفسي».
شغب مي وشغفها بالمهنة قديم. لفتت أنظار أساتذتها منذ كانت طالبة في كلية الحقوق في «الجامعة اللبنانية» بمرافعاتها وتحليلها الجنائي، ما جعل أحد القضاة يطلب منها المرافعة عن أربعة فلسطينيين متهمين بجرائم قتل، اعترفوا بها تحت التعذيب في التحقيقات الأولية. لكنّ الخنسا تمكنت من إثبات وجودهم في معتقلات العدو بتاريخ وقوع الجرائم، واستحصلت لهم على البراءة. منذ ذلك الحين، صارت تتبنى القضايا العادلة «حتى لو بلغت أقصى مراحل اليأس». تركض وراء الأدلة والبراهين، وإن ندرت، وتتوعد كل من «يمسّ المقاومة بسوء، ولو بالكلام». هكذا، كانت السفيرة الأميركية في لبنان ميشال سيسون غريمتها في الأشهر الأخيرة. يوسف شعبان الذي خرج بريئاً بعد سنوات من السجن، لم يكن آخر قضاياها الرابحة. الربح بالنسبة إليها ليس أن «تكسب الدعوى، بل ألّا تتركهم يأكلون حقك وأنت تتفرج»...


5 تواريخ

1957
الولادة في منطقة الأوزاعي

1985
تخرجت من كلية الحقوق في «الجامعة اللبنانية» وانتسبت إلى «نقابة المحامين في بيروت»

2000
رفعت أوّل دعوى على قادة العدو الإسرائيلي، وما زالت حتى اليوم تتابع مقاضاتهم في إسبانيا وهولندا

2004
صدر لها كتاب «العودة حق» (باحث للدراسات)، ثم كتاب «ولادة اللقيط» عام 2007

2010
تُعدّ لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة «أتلانتك إنترناشيونال» الأميركية