مصطفى بسيونيالهيبة والوقار والحسم والدقة والعدل هي الصفات التي يتمتّع بها القضاة عادةً. وهي كافية جداً إذا اقترنت باسم أيّ قاضٍ. لكنّ محمود الخضيري ضمّ ـــــ إضافةً إلى كل تلك الصفات ـــــ لقب القاضي المناضل. معنى خاص يكتسبه نيله «جائزة محارب ضد الفساد 2009» التي تمنحها حركة «مصريون ضد الفساد» سنوياً بناءً على تصويت الجمهور. إذ إنّ معركة الرجل كانت من أجل استقلال القضاء، وضد تزوير إرادة الناخبين، وهي القضايا التي تضرب الفساد في جذوره ومنابعه.
استقالته من أرفع المناصب القضائية كانت بمثابة قنبلة فجّرها في النصف الثاني من عام 2009، وما زالت أصداؤها تتردّد إلى الآن كما أرادها هو «كانت صرخة أردت بها أن أبيّن حجم الأزمة التي يعانيها القضاء المصري، والتدنّي الذي وصلت إليه مكانة العدالة». كانت تلك الصرخة بالفعل كما أرادها، إذ كشف عبرها عن الكثير من شوائب القضاء المصري. لكن، «لقد أَسْمَعتُ لو ناديتُ حيّاً...» وبدلاً من أن تدعو هذه الاستقالة إلى النظر في حجم الأزمة التي يعانيها الجهاز المختص بتحقيق العدل وتداركها، تلقّى الرجل الهجوم والتهم من حرس النظام من كل جانب، ولم تشفع له رحلة ما يقرب من نصف قرن في خدمة العدالة.
ولد محمود الخضيري في صعيد مصر عام 1940، وتخرّج من كلية الحقوق في «جامعة عين شمس» عام 1963. التحق بسلك القضاء عام 1964 وكان لا يزال في الرابعة والعشرين. تدرّج إلى أن وصل إلى منصب نائب رئيس محكمة النقض، وانتُخب رئيساً لنادي القضاة. هكذا ظلّ مشغولاً بقضية العدالة حتى بعدما استقال من منصبه القضائي. كان عاما 2004 و2005 علامةً في تاريخ القضاء المصري تصدّرها عنوان معركة استقلال القضاء. حينها، برز اسم محمود الخضيري بقوة كأحد قادة معركة الاستقلال. عندما يتحدث عن تلك الفترة، يعجز عن السيطرة على حماسته «كانت تلك المرحلة قمة الجهاد من أجل منع تزوير الانتخابات، وحماية استقلال القضاء. الاستقلال ليس مجرد امتياز للقضاة، بل هو الشرط الأساسي لتحقيق العدالة. ينبغي أن يشعر القاضي بالاستقلال عن أيّ مؤثرات خارجية، سواء مادية أو معنوية. فلا يأخذ بالاعتبار سوى القانون وصوت الضمير. ومن دون ذلك، لا نستطيع التحدث عن عدالة».
لكنّ قيمة استقلال القضاء لا تتحقق فقط بعدم التأثير على القاضي، بل الأهم الحفاظ على مكانة السلطة القضائية... فما أهمية أن تكون أحكام القضاء مستقلةً ولا أحد يتدخّل فيها نظرياً، ثم يجري تجاهلها وعدم تنفيذها؟ يشرح الخضيري فهمه لقضية استقلال القضاء قائلاً: «استقلال القضاء ليس مسألة فردية خاصة بكل قاض. إنّها مسألة نظام قضائي مستقل. يصعب أن يكون هناك قاض مستقل، فيما النظام القضائي ككل غير مستقل. عدم احترام الأحكام القضائية مثلاً يمثّل انتهاكاً صارخاً لاستقلال القضاء، وكذلك إحالة المدنيين على محاكم عسكرية، وإحالة بعض القضايا على قضاة معيّنين... كل هذه الأمور وغيرها تنال من استقلال القضاء مهما كانت درجة نزاهة القاضي نفسه وتجرّده».
الخضيري الذي استبسل في الدفاع عن استقلال القضاء، غادر منصة القضاء باستقالته المدوية، تاركاً أسئلة معلّقة... هل يئس الرجل من المعركة؟ أم قرّر أن يخوضها بطريقة أخرى؟ لم تتأخر إجابته. فور استقالته، انخرط بقوّة أكبر في كل المعارك السياسية والديموقراطية، معلناً أن خطوته لم تكن انسحاباً بل أخذته إلى مزيد من الاشتباك: «أنا لم أنسحب، بل قرّرت خوض المعركة بطرق أخرى. بعضهم تصوّر أنّ جرأتي كانت نابعة من الحصانة القضائية التي أتمتّع بها، فطرحتُ الحصانة جانباً كي أخوض المعركة كأي مواطن. والاستقالة منحتني فسحة لمزيد من العمل السياسي. علماً أن القانون يحظر على القاضي أيّ انتماء حزبي، لكنّه لا يمنعه من العمل السياسي، لأن القاضي إنسان ومواطن قبل أي شيء. مثلاً، إذا طالب قاض ومواطن مصري بفكّ الحصار عن غزّة، هل يُدرج هذا الموقف ضمن العمل الحزبي؟ وماذا عن الحديث عن أزمة الخبز وتصدير الغاز لإسرائيل؟ هل محظور على القضاة أن يتّخذوا موقفاً في هذا الصدد؟ هل المطلوب أن يكون القاضي بلا موقف؟ ماذا لو وقع غزو لمصر؟ أليس من واجب القضاة حمل السلاح والمقاومة؟».
لقد كانت معركة استقلال القضاء ساحةً لمع فيها العديد من الأسماء التي ترسخت في وجدان المصريين ونُظر إليهم كفرسان نبلاء عُقدت عليهم آمال التغيير، في عصر قلّ فيه الفرسان. لكنّ استقالة الخضيري وحده فاجأت كثيرين: «كنت أفكر في الاستقالة قبل سنة من تقديمها. وبذل الزملاء جهوداً مضنية لثنيي عن القرار. لم يكن من السهل عليّ أن أغادر هذا المكان الذي بقيت فيه 46 عاماً. وكان عزائي الوحيد أن ذلك في خدمة القضية نفسها التي عشت من أجلها: قضيّة العدالة».
الاستقالة عموماً قرار صعب، والاستقالة من منصب نائب رئيس محكمة النقض أصعب بكثير. إنه قرار يحتاج إلى شجاعة منقطعة النظير. هل من السهل على المحارب أن يلقي درعه في قلب المعركة؟ يستعيد القاضي محمود الخضيري، نائب رئيس محكمة النقض، ورئيس نادي القضاة في الإسكندرية، مسيرته في ساحة المحكمة، ويقول بهدوء كمن يقرأ حكمه الأخير: «كانت رحلة في خدمة الحق والعدل، بإنجازاتها وأخطائها. ما أتمناه اليوم هو مواصلة هذا الطريق، ليس كقاضٍ بل كإنسان».
محمود الخضيري يواصل اليوم الطريق التي شقّها لنفسه، محارباً عنيداً وشرساً ضد الفساد والاستبداد. لا يترك فرصة إلا ويذكّر أن العدالة واستقلال القضاء لا يتحققان من دون الديموقراطية والحريات والشفافية. إذ كيف يمكن تحقيق العدالة في بلد غير ديموقراطي؟ لذا قرّر أن يحارب على كلّ الجبهات، في خدمة القضية التي عاش من أجلها، وأن يخوض كل المعارك: «أستطيع الآن أن أشارك في كل المواجهات، أن أقف ضدّ التسلّط والاستبداد، ضدّ مؤسسات فاسدة وقمعيّة وغير منتجة هي ثمرة انحطاطنا السياسي». ويختم: «ساحة المعركة من أجل العدالة يجب أن تمتد، لقد باتت أرحب من منصة القضاء».


5 تواريخ

1940
الولادة في طهطا في محافظة سوهاج ـــــ صعيد مصر

1963
تخرّج من «جامعة عين شمس»

1964
التحق بسلك القضاء وتدرّج حتى شغل منصب نائب رئيس محكمة النقض

2004
انتخب رئيساً لنادي القضاة في الإسكندرية وخاض معركة استقلال القضاء

2010
ما زال يخوض معركته لاستقلال القضاء بعدما استقال عام 2009