زينب مرعي
«في عهد الشباب والغفلة، حين كنّا نظنّ متوهمين، أننا نتحكم في مسارات الزمان لشدة رتابته، ولقلة ما تزودنا به، تنبثق لحظة خارجة عن السياق، تنقلنا إلى مكان لم يدر في خلدنا يوماً أننا ننتقل إليه، ونتعرف إلى من يردنا ويأخذ بيدنا إلى أعتاب عالم سحري نخطو في منعطفاته على هدي كلام المرشد». بهذه الجملة، تفتتح الباحثة والمترجمة دلال عباس مقدّمة ترجمتها لكتاب «القبض والبسط في الشريعة» للمفكّر الديني الإيراني عبد الكريم سروش. لم تكن عباس لتصل إلى سروش لولا أنّها اجتازت يوماً، برجلها اليمنى، العتبة عند عالم بهاء الدين العاملي (1547 ــــ 1622). فكانت بداية رحلة طويلة، تشبه تلك الصوفيّة، حيث يتوحّد فيها التلميذ مع أستاذه، ويلهج لسانه بذكره عند كل منعطف.
لا تحدّثك دلال عباس عن نفسها من دون أن يعترض سير الحديث الشيخ بهاء الدين العاملي. ربما تغضبها كلمة «يعترض»، مثلما أغضبها ذلك المثقّف الذي مرّ بجانبها ولم يبدِ اهتماماً بحديثها عن الفيلسوف، وعالم الرياضيات، والمهندس، الشاعر والفقيه بهاء الدين العاملي. بدأت رحلة دلال مع بهاء الدين العاملي منذ سمعت اسمه مصادفة في إيران عام 1977من طالبة أصفهانيّة. حتّى أنّ عباس كتبت في أطروحتها «بهاء الدين العاملي، أديباً وفقيهاً وعالماً»: «ننتهي من وضع الكتاب الذي ألّفناه معاً».
درست الباحثة اللغة الفارسيّة، وتعمّقت فيها من أجله. هكذا غيّرت دراستها من اشتغالها على موضوع المرأة في الأندلس إلى البحث عن آثار الشيخ البهائي. «بهاء الدين العاملي أستاذي فكريّاً ودينياً. كان فيلسوفاً، وعالماً رياضيّاً أبدع بعد ثلاثمئة عام من العقم في مجال الرياضيات». تأثّرها الكبير بهذه الشخصيّة جعلها تنتقل إلى البحث الديني، هي التي نشأت في كنف عائلة جنوبيّة، تنحدر فيها الأم من سلالة النبيّ. «عائلتي متديّنة، لكنها منفتحة وبعيدة عن التزمّت».
لن نحصي كمّ مرّة تقول عباس «من أجل بهاء الدين العاملي» لكنه مجدداً كان السبب في قراءتها الفقه. من خلاله، تعرّفت متى يكون الفقه جامداً ومتى يكون متحرّكاً، والفرق بين التيار الاجتهادي والتيار الإخباري بين المذاهب وداخل المذهب الواحد. بسرعة، حسمت عباس موقفها إلى جانب التيار الاجتهادي (غير مخالفة توجّه العائلة بذلك) الذي يقول بعنصر العقل وأهميّته في الفكر الديني والحكم الفقهي، مقابل التيار الإخباري الذي يعطي الأولوية للحديث. هذا التيّار أغراها بدراسة القرآن بطريقة مختلفة، فكتبت «القرآن والشعر» وهو حصيلة تدريس النص القرآني كنص أدبي، والتمييز فيه بين اللغة القانونيّة في آيات الأحكام، الواضحة المعاني التي لا تحتمل التأويل أو التحريف، وبين الآيات المتشابهة التي تحتمل التأويل ويكمن فيها الإعجاز الأدبي. درست أيضاً تأثير القرآن في مسار الثقافة العربيّة نثراً وشعراً، من خلال دراسة التأويل والرمز في القصص القرآني، إضافةً إلى تأثيره في مجمل الثقافة العربيّة حيث نقلها من المرحلة الشفوية إلى مرحلة التدوين.
أثار «القرآن والشعر» حفيظة كثيرين، وعرّض عباس للكثير من الانتقادات. لكن ميول الباحثة الثوريّة منذ طفولتها ــــ كما تقول ــــ جعلتها تلتصق أكثر بكل ما تفعله: «ما أكتبه هو نافذة على شخصيتي». هي معركة أخرى تخوضها وفي رأس حربتها مجدداً الشيخ البهائي، الذي قاد معركة فكرية في مواجهة «الفقهاء القشريّين، أتباع الظاهر الذين حنّطوا الشعائر الدينيّة ولم يغوصوا في روحانيّته، وركّزوا على الظاهر دون الباطن».
اختبرت عباس هذه النظريّة على الصعيد الشخصي مع حجابها الذي ارتدته صغيرةً ثم عادت ونزعته حين دخلت الجامعة في بيروت: «لم يكن آنذاك في بيروت كلّها امرأة واحدة تلبس غطاء الرأس عدا القرويّات. خلعته كي لا أتهم بالتخلّف». لكنك اليوم تراها وقد عاد الحجاب يلفّ شعرها: «خلعته خوفاً وارتديته خياراً. الحجاب خيار كخيار عدم الحجاب، زي من الأزياء، لم يعد في رمزيته مظهراً للتخلّف كما كان يُعتقد. كل الموضوع يرتبط بإقامة التوازن بين الظاهر والباطن، واحترام الذات، والبحث عن الهويّة الضائعة. تبقى الأزياء خياراً وقشرة خارجيّة. والحريّة الحقيقية هي الحريّة الداخلية، والحريّة في اختيار الموقع والموقف. والتقدّم لا يعني التخلّي عن الهوية».
هذه هي دلال عباس والصورة التي عملت جاهدة على تحقيقها. امرأة قويّة، لا تهادن في قناعاتها، تكاد تنسى وهي تحدثك عن كتاباتها وأبحاثها أنّها زوجة وأم لأربعة أولاد، وأستاذة مشرفة على أطروحات الدكتوراه في الأدب العربيّ ــــ الفارسيّ المقارن في الجامعتين اللبنانية والإسلاميّة. بعد القيام بكل هذه المهمات، يبقى لها أن «ترتاح» مع الأعمال المنزليّة.
التمرّد والثورة بالنسبة إليها ليسا ألوية برّاقة تحملهما، بل جزء لا يتجزّأ من شخصيّتها المحكومة بالعقل والمنهج العلمي. تمرّد العقل لدى عباس، بدأ بعد تخرّجها أولى على دفعتها من دار المعلّمين وتعيينها للتدريس في جويا (جنوب لبنان). هنا كانت تجربتها الأولى مع فساد الإدارة اللبنانيّة «الحنق ما زال يرافقني بعدما اختبرت ذلك عملياً في مرحلة الإدارة».
أصرّت على العمل في «ثانوية النبطية الرسمية للبنات » في أصعب الأوقات التي اشتدّ فيها القصف الإسرائيلي، ثم خلال الاجتياح عام 1982. «شعرت أنه يجب عليّ أنْ أفعل شيئاً، في حدود قدراتي للمواجهة، من عام 1985 حتى الانسحاب عام 2000. البيت في النبطية الفوقا في مواجهة موقعين لحديّين، والثانوية تقع في سهل مكشوف مقابل الموقع الإسرائيليّ. كانت حوالى 400 شابة في المرحلة الثانوية، معرضات يوميّاً للموت أو للانهيار النفسي... وكثيراً ما تعرّضت الباصات في لحظة خروج التلاميذ للقصف». مع ذلك، ستقول لك «الدكتورة» دلال «أن نكون في قلب الحدث، كان أسهل بالنسبة إلينا من التباكي من الخارج».


5 تواريخ


1947
الولادة في قرية كوثرية السياد ــــ جنوب لبنان

1984
إدارة «ثانوية النبطيّة الرسميّة للبنات»
قرابة ربع قرن

1995
نشرت أطروحتها «بهاء الدين العاملي أديباً وفقيهاً وعالماً»

2001
صدور كتابها «القرآن والشعر»

2010
تعمل على ترجمة «دائرة معارف العالم الإسلامي» من الفارسيّة إلى العربيّة. وتعيد «دار الجديد» إصدار «بهاء الدين أديباً وفقيهاً وعالماً»، وترجمتها كتاب «القبض والبسط في الشريعة» لعبد الكريم سروش