حسام كنفاني


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

«حركة فتح لن تنتحر إذا تمسّك الرئيس الفلسطيني محمود عباس بقراره عدم الترشح لفترة رئاسية قادمة، والحركة قادرة على إيجاد البديل». قدر كبير من الثقة بالنفس، وبالحركة، يبديه القيادي «الفتحاوي»، محمد دحلان، وهو الضالع والضليع في كل ما هو قائم حاليّاً في «حركة التحرير الوطني الفلسطيني»، وخصوصاً بعد مؤتمرها السادس. وبمزيد من الثقة، يتابع دحلان أن «اللجنة المركزية وجميع مؤسسات الحركة فاعلة وقادرة على التعاطي مع مختلف الظروف والأوضاع التي يمكن أن تواجهنا جرّاء عدم ترشّح عبّاس»، على اعتبار أن حركة «فتح أثبتت من خلال مؤتمرها السادس أنها قادرة على تجديد نفسها على مختلف المستويات، ووفق ما تقتضيه الضرورة».
نستخلص من هذه الحِكَم «الدحلانيّة» أن الحركة «لن تنتحر جماعيّاً» وأنها قادرة على الاستمرار. الأمر قد يكون صحيحاً، لكن الاستمرارية بأي صيغة، هنا يكمن السؤال. العديد من الفصائل الفلسطينية، التي لا طعم لها ولا رائحة، لا تزال مستمرة بلا أي فائدة إلا «كمالة عدد» لتشكيلة منظمة التحرير. «جبهة النضال»، «فدا»، «جبهة التحرير العربية» و«جبهة تحرير فلسطين»، كلها فصائل أعضاء في منظمة التحرير، لكن وجودها أو عدمه لا يقدّم ولا يؤخّر على الساحة الفلسطينية، حتى إن الكثير من الفلسطينيين لا يعلمون بوجودها أصلاً، بعدما تحوّلت إلى ما يشبه «دكاكين» تستمد مسوّغات استمراريتها من الحصص الماليّة التي توزعها المنظمة على فصائلها.
فصائل لم تنتحر، لكنها اندثرت، أو في طريقها إلى الاندثار. «فتح» إلى اليوم لم تصل إلى هذا الحد من الضعف، لكنها في الطريق إلى ذلك. و«المؤتمر السادس»، الذي يتغنى به دحلان، لم يقدّم الولادة الجديدة المطلوبة، بقدر ما أخرج التيارات المتصارعة في الحركة إلى العلن، ووضعها في إطار الهيئات الناظمة لـ«فتح».
ولنساعد السيد دحلان في إلقاء نظرة على تاريخ التغييرات القيادية في حركة «فتح». تاريخ فقير جداً، فعلى مدى أكثر من 50 عاماً (هي عمر «فتح») لم تشهد الحركة إلا رئيسين، هما: الزعيم الراحل ياسر عرفات، رغم القيادات التاريخية الكثيرة التي عاصرته، ومن ثمّ جاء محمود عباس وريثاً للحركة، التي لم يكن من مؤسسيها.
آثار التغيير القيادي الوحيد كانت ظاهرة للجميع، وتجلّت في انتخابات عام 2006. فبعد أقلّ من عامين على رحيل عرفات، خسرت «فتح» غالبيتها النيابية لمصلحة «حماس»، وهي لا تزال تنزف الكثير من شعبيتها التي وصلت إلى الحضيض بعد سقوط خيارات ورهانات عبّاس، الذي جرّ الحركة إليها على اعتبار أن «لا بديل من السلام عبر المفاوضات».
عزوف عبّاس لن يكون أقلّ تأثيراً على «فتح»، لكن من منطلق آخر. فليس أبو مازن هذه الشخصية الفذّة أو الكارزميّة التي تقود بجدارة مركب «حركة التحرير الوطني الفلسطيني»، لكن لا يخفى على دحلان أن عبّاس هو الشخصية التي توافقت عليها تيارات «فتح»، وغيابها سيخرج صراع التيارات مجدّداً إلى السطح، وربما بشكل أعنف من السابق. تيّارات كانت تعكس نفسها سابقاً على شكل ثنائيّات (جيل شاب ـــــ جيل قديم، إصلاحي ـــــ تقليدي، مقاوم ـــــ تسوية)، لكن بعد المؤتمر السادس أصبحت التيارات بالمسمّيات (عرفاتيون، عباسيّون، مروانيّون، دحلانيّون).
ولا يخفى على دحلان أيضاً أن أصواتاً جديدة بدأت تظهر في «فتح» وتشكو من انعكاسات خيارات عبّاس على شعبية الحركة وماهيّة تأسيسها كحركة مقاومة فلسطينية، وهو ما نسفه أبو مازن منذ وصوله إلى السلطة، وأكده أخيراً بالإشارة إلى أن «لا انتفاضة جديدة» رغم الخيبة التي يعيشها.
إلى الآن، لا شخصيّة «فتحاويّة» قادرة على جمع المتناقضين حولها. وفي ظل مثل هذا الغياب، لا شك في أن الحركة ستغرق في غياهب الصراعات، وتنزف المزيد والمزيد من شعبيتها، وحتى كوادرها ومحازبيها، لتصبح رقماً فصائليّاً آخر يضاف إلى قائمة منظمة التحرير.
على هذا الأساس، الحركة تحتاج إلى «منقذ»، بالتأكيد لن يكون محمد دحلان. الكثيرون ينظرون إلى القيادي الأسير مروان البرغوثي على أنه الوحيد القادر على إخراج «فتح» من الحضيض الذي وصلت إليه، وإخراجها من حقيقة تحوّلها إلى «حزب حاكم» يضم مجموعة من المنتفعين، الذين تربطهم علاقة مصالح بالحركة الملتصقة بالسلطة.
الأمل بشخص البرغوثي له ما يبرره، ولا سيما أنه إضافة إلى شعبية الشخص وكاريزميته، فإن مواقف أبو القسام توحي بأنه يعدّ لإعادة «فتح» إلى جادة العمل الفلسطيني الحقيقي، واستعادة بعض الخيارات التي أسقطتها القيادة الحالية. البرغوثي يؤكّد فشل المفاوضات مع إسرائيل، إلا أنه في الوقت نفسه يشدّد على عدم استبعادها أو رفضها من حيث المبدأ، «بل يجب إسنادها بصمود وطني ووحدة وطنية وبرنامج وطني ومقاومة شعبية فاعلة يشارك فيها الجميع»، على اعتبار أن «مقاومة الاحتلال العسكري والاستيطان هي واجب وطني، قومي، ديني، إنساني، أخلاقي وقانوني».
مواقف مبشّرة إذا سُمح للرجل بالوصول إلى سدة رئاسة الحركة أو رئاسة السلطة. مواقف لا تعجب دحلان الذي سيكون عليه، في حال تطبيقها، الاندثار بالحد الأدنى، إن لم يرد الانتحار.