عمر نشّابةتردّد كريم طويلاً قبل أن يُعلم والدته بالمبلغ الذي يفترض تسديده لتغطية قسط الجامعة قبل نهاية الشهر. فطالب السنة الأولى في الجامعة الأميركية يعرف أن وضع العائلة المالي ليس مطمئناً، وخصوصاً بعد دخوله الجامعة. فراتب والدته التي تعمل صباحاً في أحد المصارف وبعد الظهر في مكتب محاماة، لا يكفي. «ماما شو رأيك لو بعنا الأرض بالجبل؟»، يسألها كريم وهي تضع الثياب في الغسالة. «ما فينا نبيع شي قبل ما يرجع بيّك يا حبيبي»، تردّ بنبرة حزينة. كمال كان قد خرج ليشتري بعض الحاجات المنزلية من السوق عام 1987 ولم يعد. خرج ولم يعد. هكذا بكلّ بساطة يمكن أن تولد أصعب لحظات العمر وأكثرها تعقيداً. «ماما، قال لي سليم المحامي صديق البابا إنه يمكننا بيع الأرض وهو يعرف المخرج». تركت السيدة، التي تبدو آثار الإرهاق واضحة على وجهها، الغسيل ووقفت بصمت من دون أن يفلت ابنها من نظرتها للحظة. «شو ماما؟ بدنا نعيش يا ماما...» وضعت يدها على خدّه الأيمن وقالت «تعيش يا حبيبي تعيش وبيّك كمان كان دايماً يقولها». وبحماسة سرد الشاب «إيه ماما... سليم قال إن الدولة بتصدر شهادة وفاة فيتاح لنا حصر الإرث وبيع الأرض و...» «ششششششششش!» وتعود إلى وضع باقي الثياب في الغسّالة ثم تغلقها وتلتفت إلى كريم وتسأل دامعةً: «وين القبر؟ وين بدنا نحطّ زهور ونصلّي على العيد؟».
***
يتنشّق سامر سيجارته ثم يمسك برأسه وهو يحدّق في عينيْ ابنته لينا من خلف القضبان الحديدية. «صارت صبيّة» يقول وعيناه دامعتان. مرّت ثلاث سنوات وما زال سامر بريئاً. فلم يحاكم بما اتُّهم باقترافه من جرائم، بل أوقف احتياطياً فانضمّ إلى غالبية البشر الذين تسجنهم الدولة في لبنان لسنين قبل إصدار الأحكام بحقّهم. غداً سيتبيّن ربما أن سامر بريء ويُخلى سبيله... لكنه سيبقى في نظر الناس مجرماً منذ اليوم الأول لاعتقاله أو على الأقلّ مشتبهاً فيه أو مشكوكاً في أمره. خلال ثلاث سنوات صُنّفت لينا وباقي العائلة بعائلة المجرم السجين. فقدت معظم أصدقائها في المدرسة وانهارت أعصابها من مشقّة الانتظار في طابور زوّار السجن. أما سامر فعاد إلى البيت لا إلى الحرية. لن يستعيد وظيفته في المصرف حيث كان يعمل قبل اعتقاله. فمن يعيد توظيف متخرّج من رومية، بغضّ النظر عن الذنب أو البراءة؟
***
ركضت شارلوت إلى الحمام الصغير قرب باب المطبخ وزربت نفسها فيه. سقطت أرضاً. كان جسدها يرتجف من الخوف. أغمضت عينيها وتذكّرت الرمل الذهبي على شواطئ سريلانكا وضحكات شقيقتها وهي تهرب من الأمواج كلّما اقتربت منها. مسحت دموعها ورتّبت ثيابها واستعدّت للعودة إلى المطبخ حيث كان ربّ العمل ينتظرها. أمسكها من شعرها وقال «ولا كلمة... فهمتي؟ ولا كلمة لحدا!». هزّت برأسها بسرعة «يس مستر... يس مستر». فتركها ورماها جانباً بحركة عنيفة.
***
تعجّ قاعة الانتظار في مستشفى الجامعة الأميركية بالمرضى وذويهم. إنه قسم علاج العيون. معظم المنتظرين عجزة أتوا برفقة شريك (أو شريكة) عمرهم أو وحدهم بعد غيابه (أو غيابها) أو برفقة أحد أولادهم. يلتفت شاب في العقد الرابع يمنة ويسرة متفقّداً المنتظرين. يترك هاتفه الخلوي جانباً بعد أن قرأ بعض الرسائل الإلكترونية، ويتقدّم نحو الممرضة: «عفواً يا نيرس، كلّ الناطرين بدهن يعملو إبرة متل الماما حتى لا يُحرموا النظر؟» فتجيب الممرضة المشغولة بتنظيم الملفات: «ما بعرف، لازم تسأل الحكيم، بسّ بعتقد إنو معظمهم بحاجة للعلاج». يعود الشاب إلى مكانه ويشعر بداية بأن جواب الممرضة كان كافياً لإرضاء فضوله. «شو قالتلك؟» سألته والدته مستفسرةً، «قالت إنو كلّ الناس هون بدّن يعملو إبرة متل الإبرة يلّي لازم يعملّك ياها الحكيم و...» يقاطع الشاب كلامه عند إدراكه أن الممرضة لم تجب عن سؤاله. ينتصب ويتوجّه نحوها ثانيةً: «عفواً بسّ بدي إسألك يعني معظم يلّي هون ناطرين ليعملوا الإبرة؟»، «أنا قلتلك إنُن بحاجة للعلاج وغير هيك اسأل الحكيم»، تجيب النيرس بسرعة وتعود إلى عملها. يجلس الشاب ويهمس في أذن والدته «شوي يعني؟ بيتعالجوا أو ما بيتعالجوا؟». الطبيب يقول بلطف بعد سؤاله «نحن نسعى لمعالجتهم لكن... لا تسمح أحوال معظم المرضى بشراء الإبرة، فثمنها يبلغ نحو 700 دولار والضمان الاجتماعي ما بغطّي الكلفة». «شو يعني؟»، يسأل الشاب، «شو شو يعني؟»، يقول الطبيب بنبرة منزعج. «يعني يلّي ما معو مصاري بيفقد النظر؟» يسأل الشاب ويبحث عن عينيْ الطبيب ليركّز نظراته عليهما منتظراً الجواب الذي لا يأتي إلا بصوت أشبه بأنين خافت: «ممم». ويغمض عينيه.
(يتبع في عدد يوم الاثنين)