إيلي شلهوبشارف العقد الأول من الألفية الثالثة على الانتهاء، على مشهد عالمي جديد فرضته عناصر دخلت حديثاً على المعادلة السياسية، يُتوقّع أن تطبع مسار العلاقات الدولية لفترة، مداها الزمني لا يزال غير معلوم، وإن كان «الشرق الأوسط الكبير» يبدو الأكثر تأثّراً به. مرحلة عناوينها باتت معروفة، بخطوطها العريضة على الأقل: تهدئة مصحوبة بدبلوماسية بلا أنياب ومجرّدة من عناصر القوة (العسكرية على وجه الخصوص)، التي يعطّلها العجز عن استخدامها، أو لاجدواها. وإن حصل أن جرى تفعيل قوة كهذه، فإنما يحصل ذلك وفقاً لـ«استراتيجية خروج»، هدفها مغادرة المستنقع لا النصر، ولو بتعريف الحد الأدنى.
تطوّرات الأشهر القليلة الماضية قد تكون خير معين: صفحة أميركية جديدة مع روسيا، على قاعدة العودة بالعلاقات إلى النقطة الصفر، أرفقت بتراجع عن مشروع الدرع الصاروخية، بخلفية تسووية طالت الملف الإيراني. تقارب مع الصين تجاوز الملفات الخلافية من حقوق الإنسان وتايوان وغيرهما على قاعدة مواجهة الأزمة الاقتصادية (نتجاوزها معاً أو نسقط معاً!). جهود دبلوماسية (أميركية وأوروبية) جبّارة لإحياء عملية السلام، بلا نتيجة. انفتاح على سوريا بلغ مراحل متقدمة. انبطاح غربي غير مسبوق أمام إيران (كيف يمكن تفسير سكوت الغرب لأكثر من 50 يوماً على امتناع إيران عن تقديم إجابة عمّا عُرف بـ«عرض البرادعي»، رغم أن الأخير أمهلها يومين فقط؟ وتهديدات غيتس أمس لا تغيّر من الواقع شيئاً). إشارات انفتاح أميركي على «الجناح السياسي» لحزب الله، وأوروبي على «حماس». اتجاه نحو انسحاب من أفغانستان في 2011، يترافق مع خروج من العراق...
مسار بدا خلال الولاية الثانية لجورج بوش، وتكرّس في عهد أوباما، يقوم على عنصرين دخلا المعادلة الدولية خلال القرن الحالي: إدراك لحدود القوة، وإقرار بظهور فاعلين جدد، بعضهم له امتدادت كونية.
لطالما كانت القوة تجد ترجمتها العملية مباشرةً على الأرض. المعادلة كانت واضحة منذ فجر التاريخ: كلما امتلكت من قوة توسّع نطاق مملكتك، وكلما ضعفت قوتك، تقلصت حدودها. كان العالم واسعاً، وكثير من مساحاته غير مكتشفة أو غير مستغلّة بعد. قامت إمبراطوريات وزالت أخرى. بعضها ما كانت الشمس تغيب عنها.
إلى أن جاءت الحربان العالميّتان، اللتان أنتجتا نظاماً دولياً جديداً حكمته ثنائية قطبية خاضت حرباً باردة، ميّزتها «المعادلة الصفرية»، بمعنى أن كل قوة يكسبها طرف يخسرها الآخر والعكس صحيح. باتت للقوة حدود فرضتها قوة الطرف الآخر. خيضت صراعات كثيرة بالوكالة، اختلفت نتائجها بحسب الموقع والظروف، إمّا نصر (في فيتنام للسوفيات وفي أفغانستان للأميركيين)، أو تعادل (في أوروبا وكوريا) أدّى إلى تقسيم.
تغيّر الوضع مع انهيار الاتحاد السوفياتي وما رافقه من انفراط عقد المعسكر الاشتراكي وهرولة للانضمام إلى الطرف المنتصر. عادت للقوة هيبتها، وإطلاقيتها. عبّرت عن نفسها في أكثر من مكان: حرب الخليج عام 1991، وحروب البلقان في نهاية التسعينيات. بل حتى في أفغانستان 2001 وعراق 2003.
لكن مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، كان نوع جديد من الفاعلين قد ظهر على الساحة الدولية: تنظيمات مسلحة تتخذ من أراضي دولة ما (أو أكثر) قاعدة لها. تحكمها أطر أيديولوجية رؤيوية يستحيل إبرام تسويات استراتيجية معها. تمتلك حاضنة شعبية متجذرة فيها، تتماهى معها في رؤيتها لنفسها ووجودها ومصيرها، وتمثّل مصنع كوادرها، بحيث أصبح هدف القضاء على التنظيم يعني إبادة لجماعة بشرية بكاملها، كما تملك من القوة ومن المقدرة على إحقاق أضرار، ما يجعلها لاعباً إقليمياً بامتياز.
فاعلون كهؤلاء كانوا موجودين أصلاً كتنظيمات محلية. هي حال حركة طالبان، التي تخوض صراعاً مستمراً منذ أكثر من ثماني سنوات مع أعتى قوة في العالم، يزيدها قوة يوماً بعد يوم. وحزب الله، الذي ارتدى عباءة «الرقم الصعب» في المعادلة الإقليمية في عام 2000، وكرّسها في اختبار عام 2006 مع من تعتبر نفسها أعتى قوة في المنطقة. هي إسرائيل نفسها التي سعت إلى تفريغ عجزها وإدراكها لمحدودية قوتها تجاه حزب الله، في حركة «حماس» في غزة، عله يعتبر منها، فجاءت الرياح بما لا تشتهيه السفن العبرية. بل هي أيضاً حال تنظيم «القاعدة» بمتفرعاته، التي تنبت كالفطر حيثما وجدت بيئة ملائمة. مع الإشارة طبعاً إلى الفارق الجوهري بين هذه الحركات من حيث الأسس العقائدية وترجماتها المبدئية والتكتيكية.
هي المعضلة التي تواجه الغرب عموماً، والولايات المتحدة وإسرائيل على وجه الخصوص. باراك أوباما بدأ ولايته بما هو متيسّر: دبلوماسية بلا أنياب، فكان مصيره الفشل في عملية السلام، وإيران، وأفغانستان. قرر أخيراً تركيب طاقم أسنان على الجبهة الأفغانية ـــــ الباكستانية شبيه بالذي ركّبه بوش في العراق. يبدو واضحاً أنه سيكون سريع العطب (هنا طالبان ولا صحوات).
من المثير معرفة طريقة تعامله مع حزب الله و«حماس»، وخلفهما إيران مع إطلالة العقد الثاني من هذه الألفية الذي يعتقد بعض الرؤيويين أن إسرائيل لن تشهد نهايته.