ضحى شمسحالما تركب الصوبيا التاريخية البنفسجية اللون في بيتنا في جرد بلاد جبيل، يكون موسم الرحيل إلى الساحل قد حان. هكذا، يشعلها والدي بنوع من احتفالية صامتة بينه وبين نفسه، فيلقّمها بضع قطع من الحطب، كأنّما لمجرد شم عبيرها. كأن رائحة تلك الصوبيا تعيد إليه شيئاً من طفولته، شيئاً لم يعد يجد من يشاركه فيه منذ وفاة والديه منذ مدة طويلة. وللشتاء غرفة في بيتنا، تسمى «غرفة الشتاء». والاسم قد يكون مستمداً من موقع الصوبيا البنفسجية العتيقة في هذه الغرفة دون غيرها، التي يمتد قسطل داخونها إلى الخارج من طاقة عالية، ينسم منها الليل في الصيف حين تخلو من الداخون. بإشعاله الصوبيا يعطي أبي، المغرم بصيف الضيعة، الإشارة إلى أنه «يعترف» بأن فصل الصيف انتهى، وحان وقت العودة إلى مستقرّه الشتوي، ووالدتي في طرابلس، عاصمة الشمال. هذا اليوم بالتحديد، هو يوم عيد لوالدتي، التي تكره الضيعة لعزلتها عن العالم المتحضّر وخلوّها المتزايد سنة عن سنة، من الناس. وككلّ الجرديّين، كنا نسوحل، أي نقصد الساحل. فلا أحد يريد البقاء هنا في الشتاء، حيث لا يتوافر شيء من ضرورات استمرار الحياة، فلشراء حبتَي بانادول مثلاً عليك الذهاب إلى قرطبا، البلدة المتحوّلة شيئاً فشيئاً إلى نوع من «عاصمة» الجرد، هذا إن لم تكن الثلوج قد قطعت الطرقات.
والسوحلة، كما نسمّيها بالعامية السائدة هنا في بلاد جبيل، ليست كما يظن البعض ظاهرة جديدة. فمنذ طفولة أبي على ما يروي لنا، كان أهل الجرد يسوحلون لقساوة هذا الفصل عليهم هنا على ارتفاع 1300 متر عن سطح البحر، ولأن السبل كانت تتقطّع بهم حرفياً بهطول الثلج، الذي كان يحيل القرى الخالية حتى مجرد طبيب، إلى أماكن مسورة بالأبيض، عاصية الدروب وقاتلة لمن يشاء سوء حظه أن يمرض مثلاً في هذه الفصل من السنة.
وبما أن الأطراف «تقع» في لبنان خارج اهتمام الدولة المنصرفة إلى عبادة صورتها في العاصمة، لم يصل النقل المشترك إلى هنا، لا في السابق ولا اليوم. وقبل «البوسطة» وقصص ركابها والمعاون، كان الناس ينزلون إلى الساحل إما مشياً أو على الدوابّ. هكذا، كانوا يسوقون ماشيتهم أمامهم إلى مستقرهم الساحلي، حيث يقضون شهور الشتاء، قبل أن يعودوا في رحلة الصيف أوائل الربيع بعد ذوبان الثلوج. «المشاوير» كانت مضنية. فقرى بلاد جبيل الجردية بعيدة، يستغرق الوصول إليها اليوم بالسيارة من بيروت ساعتين، وطرقاتها لولبية قصيرة. أي إنك ما إن تلفّ الكوع حتى يباغتك كوع آخر. أمّا الدرب نفسه فصاعد بشدة حتى لتكاد الطريق أن تكون واقفة كما يقال. وقد أخبرني والدي أن حصاناً مرة «انتحر» لشدة تعبه، مفضّلاً رمي نفسه في الوادي السحيق، على المتابعة صعوداً بأحماله.
إذاً، لم يكن يبقى في القرى شتاءً إلا المزارعون ممن لا مال لديهم لاقتناء بيت أو استئجاره على الساحل مع زريبة لبهائمهم. لأولاد هؤلاء افتُتحت، بعد جهد جهيد، مدرسة رسمية في القرية، ليستطيعوا أن يفكّوا الحرف على الأقل. ثم مرت فترة قبل الحرب، عاشت القرية «وهلة» من الازدهار، صيفاً بالطبع. فكان لنا ناد يقوم بنشاطات، كندوات الإرشاد الزراعي لمزارعي التفاح، ومسابقات في الأدب للأولاد أمثالنا، ومباريات في كرة السلة. كانت القرية تعج عجّاً بالأولاد صيفاً، لكن في الشتاء كان الجميع يسوحل تقريباً: البعض إلى جونية التي كانت لا تزال «مختلطة» طائفياً كما قريتي، أو جبيل الأقرب منها، وضواحيها مثل «مستيتا» ونهر إبراهيم التي تحولت اليوم بفضل المسوحلين إلى مدن قائمة بذاتها. نهر إبراهيم كان مجرد نقطة التقاء الجبل بالساحل. نقطة ينزل عندها الراكب، ليستقل واحدة من ثلاث سيارات مرسيدس تاريخية «يشوفر» عليها بضعة سائقين ناقلين في عطلة نهاية الأسبوع مَن لا سيارات لديهم إلى القرى الجردية. وبالطبع عليك خلال «المشوار» أن تخضع «لفحص هيئة» كما يقول المصريون، «ابن مين؟ وشو عم تعمل؟ وشو عندك صار ولاد؟». آخرون كانوا، مثل والدي، يغادرون إلى نقاط أبعد بحكم الوظيفة: بيروت أو طرابلس. ثم شجعتهم الحرب الأهلية على الاستقرار «بأمان» بعيداً في المدن المفروزة طائفياً من لونهم.
هكذا، وبمرور الأيام، تحولت المدرسة الرسمية في القرية إلى مدرسة صيفية. كنا في الحقيقة نسجّل فيها في الصيف، من أجل التسلية مع أترابنا. وحالما بدأ جيلنا يستقر في حياته العملية، بدأت القرية تفرغ حتى صيفاً منّا، إلّا في عطل نهاية الأسبوع التي أصبحنا، لاقتصارها على يوم واحد، نقضيها بما يشبه النقاهة من شدة العمل في بيوتنا المدينية. هكذا، بدأ الناس ينقلون كامل حياتهم إلى المدينة. ارتبطوا بأعمال لا «صيفيات» فيها، تحولت المدرسة الرسمية إلى مقر للبلدية، ورويداً رويداً، لم يعد يزور القرية إلا من يريد أن «يطل» على «الختايرة»، أو لمناسبة دفن، وخصوصاً أن الأعراس كانت تجري في قاعات المطاعم الفقيرة أو الغنية، حيث يحلو للناس أن يقلّدوا طقوساً استهلاكية بلا معنى يرون الناس على التلفزيون يقومون بها!
وللأسف، بلاد جبيل ليست فريدة في سيرتها الذاتية المؤسفة. فإهمال الدولة، لا بل عدوانيتها وتعاليها الطبقي، وأحياناً الطائفي على أهالي المناطق النائية، ستجعل كثافة لبنان السكانية مقتصرة على الساحل. لكنها كثافة لا بركة فيها، كثافة موظفين وسماسرة ومقاولين لا ينتجون شيئاً، ويريدون «النط» على الدولة، نواباً، حالما يتوافر لهم المليون الأول، وقدامى المزارعين المنتجين، حصيلة السوحلة، تحوّلوا إلى جيش من الخدم وصغار الكسبة. أما أهل الأرض وعرقها، من قيل فيهم «فلاح مكفي سلطان مخفي»؟ فقد تصادفون بعضهم «يشوفرون» على «فان» ما على خطوط الضواحي من برج حمود إلى الضاحية الجنوبية إلى عين الرمانة، أو «غرسونية» في مطاعم جونية، أو «بارمانية» في ملاهي المعاملتين، أو عناصر في شركات أمن خاصة على باب الكازينو، يراقبون بصمت خطر، كيف يبدّد مال، لو توافر بعضه لهم، لكانوا لا يزالون يعيشون فوق، في قراهم العامرة.