تحفل ذكرى عاشوراء بتقاليد اجتماعية كثيرة، تواكب إحياء المناسبة الدينية. منها توزيع أطعمةٍ باتت تشكّل مع مرور الزمن مكونات للمطبخ العاشورائي، الذي يحرّك سوق المواد الغذائية خصوصاً على مستوى الحبوب واللحوم
محمد محسن
للأيام العشرة الأولى من شهر محرم الهجري، أي عاشوراء، خصوصية تمس كثيراً من نواحي حياة من يحيي شعائرها، وتصل إلى نمط غذاءه. ففي هذا الموسم، يتم توزيع أطعمةٍ متنوعة، ليس من باب الترف الغذائي، وإنما نتيجة ارتباطٍ وثيق بالشعائر الروحانية. هكذا، باتت أطباق «الهريسة» أو حلويات «كعك العباس» أو «الراحة مع البسكوت» مرتبطةً بشكلٍ عضوي بإحياء شعائر عاشوراء. هذا التتوزيع هو عادة إجتماعية، غير منصوص عليها دينياً، بقدر ما هي منتج ثقافي أقرته الجماعة، وتقوم به «عن روح أبي عبدالله».
بهذه المناسبة، تنتشر مأكولاتٍ لا تظهر في أي مناسبةٍ أخرى. مثلاً، طبق الـ»هريسة». والحديث هنا عن طبق الدجاج والقمح وليس عن الحلوى المسماة بالإسم ذاته. ولهذا الطبق دوره في تحريك سوق الغذاء، خصوصاً في المناطق التي يكثر فيها إحياء مجالس العزاء. فهو يتكون من سلعتين أساسيتين لا غنى عنهما: القمح، الدجاج أو اللحم الأحمر. في تلك المناطق، يكفي القيام بجولة سريعة حتى تظهر قوة حركة البيع والشراء في الأسواق المتخصصة بالمواد اللازمة لتحضير الهريسة.
في متجر الحبوب الذي يملكه، وخلافاً لما هو معتاد في أيام السنة، يبيع نزيه قبرصلي يومياً أكثر من «شوالين» (حوالي 60 كيلوغرام) من القمح البقاعي ذي الجودة العالية. وبرغم ارتفاع وتيرة الطلب على القمح يشير قبرصلي إلى أن سعره لم يرتفع وبقي على عتبة 1250 ليرة للكيلو الواحد. كذلك، يشير قبرصلي إلى تكاثر الطلب على سلعٍ أخرى كطحين الفرخة المخصص للكعك، والسمن الذي ارتفع سعره بشكلٍ كبير. وانتقالاً إلى الشق الثاني من الهريسة أي اللحوم، يشير علي الحناوي إلى ارتفاع نسب بيع الدجاج أيضاً. ولكن ليس الدجاج العادي الذي نقتات عليه في موائدنا. فدجاج الهريسة، كما يشرح، يسمّى في عرف البائعين «دجاج لحم»، وهي «الإمايات التي تبيض وتكون مكتنزة باللحم، ويتم بيعها لإعداد الهريسة حين تتوقف قدرتها على الإباضة». و يرتفع سعر الدجاجات البيضاء وينخفض تبعاً لوزنها الذي يتراوح بين 3 و4 كيلوغراماً فيباع الكيلو بـ3500 ليرة، أما حجم الطلبيات؟ فيجيب حناوي بأنها في الحد الأدنى ثلاث أو أربع دجاجات «لكل طبخة هريسة ينوي الشاري توزيعها على الفقراء». وعلى صعيدٍ أكبر، تنتشر موائد عاشورائية متخصصّة بهذا الطبق بشكلٍ لافت. في الضاحية الجنوبية، يشير مسؤول عن إحدى الموائد إلى توزيع 150 كيلوغراماً من الهريسة يومياً، ولأجل ذلك، يستعمل الطهاة المتطوعون لهذه المهمة الشاقة 150 كيلو من القمح و150 كيلو تتوزع بين دجاج أو لحم أحمر. أما عن تأمين تكاليف إنتاج 4000 علبة من هذه المواد، فيشير إلى أن الإعتماد الأساسي هو «على التطوع، وعلى تبرع المتبرعين الذين ينوون كسب الأجر عبر إطعام الفقراء وتوزيع الطعام عن روح الحسين». لم يكن بالإمكان تحديد أصل الهريسة. تفاوتت القصص بشأن ذلك. وفي هذا السيق، يذكر أن الباحث تشارلز بيري كان قد اعتبر في المقدمة التي أعدّها لكتاب الباحثة ليليا زويلي «مطبخ العصور الوسطى في العالم الإسلامي»، أن الهريسة هي وجبة نبطية لا تزال متداولة حتى اليوم، ووصفها بطبخة معدة من «القمح الكامل المطبوخ مع اللحم حتى النضوج، يخفق لاحقاً إلى أن يتحول إلى مزيج سلس ولذيذ»، بينما حدّد أصولها جازماً أن «العرب قد تعلموا طريقة إعدادها من الأنباط، وهم مسيحيو سوريا والعراق الذين يتحدثون الآرامية».
بعيداً عن المأكولات «الثقيلة» كالهريسة التي يستعيض كثيرون بها عن وجبات الغداء أو العشاء، لا يمكن إهمال الحلويات العاشورائية. هكذا، يشكّل «كعك العباس» الطري و»المقمّر» من الخارج والأصفر من الداخل، عينّةً هامة مما يتم توزيعه. لست بحاجةً لسؤال الأفران عن إنتاجيته، إذ تكفيك مئات الكعكات المنتشرة بشكلٍ متواصل على رفوفها. هي حلوى يشتهيها كثير من الأطفال لحلاوتها وطراوتها، كما أنها سهلة التوزيع وتفي بغرض الإطعام لكسب الأجر والثواب بالمعنى الديني. كذلك، ومنذ فترةٍ طويلة، تحتل حلوى الراحة والبسكويت مكانةً خاصة في عاشوراء. هي عادة درجت «لسهولتها وإمكان توصيلها إلى أكبر عددٍ ممكن من الناس» كما تقول الحاجة أم حسين مكي التي تطبخ الهريسة وتعجن الراحة بالبسكويت طوال أيام عاشوراء. ورغم أن المطبخ العراقي قد دخل بقوة على فعاليات عاشوراء في لبنان، إلا أنه لا يزال محصوراً عند العراقيين المقيمين هنا، لأن اللبنانيين شديدي التمسك بالهريسة، رغم حبهم للوجبات العراقية.