عمر نشّابةوقع مساء السبت الفائت حدث أمني في الضاحية الجنوبية لبيروت، نقلت وسائل إعلام معلومات متضاربة عن طبيعته. ولعلّ أبرز تصريح إعلامي يتعلّق بالحدث ورد على لسان وزير الإعلام طارق متري الذي أعلن، مستعجلاً الأمور، أن القوى الأمنية «لم تتمكن من القيام بالحد الأدنى من واجبها إثر الانفجار الذي وقع في الضاحية الجنوبية». وهو كلام غير صحيح، إذ إن السلطات القضائية والأمنية اللبنانية دخلت الى المكان وقامت بـ«الحدّ الأدنى من واجبها». ويمكن أن يسأل متري القاضي رهيف رمضان عن الأمر، إذ إنه أشرف ميدانياً على التحقيقات الرسمية كما يمكن أن يسأل الضباط المسؤولين عن فوج الهندسة في الجيش الذين قاموا برفع الأدلّة والعيّنات من مكان الحدث. قبل التوقف عند بعض الجوانب غير الدقيقة من كلام الوزير، لا بدّ من التطرّق الى الجانب المهني والقانوني للتعامل الرسمي مع حدث الضاحية الأمني الأخير.
إن التحقيق المهني ينبغي أن يكون سرّياً ولا تُستبق نتائجه. ويُفترض أن يتطلّب التعامل المسؤول مع أي حدث أمني يقع في الضاحية الجنوبية لبيروت خلال هذه المرحلة من الصراع مع إسرائيل استيعاباً دقيقاً للأمور الآتية:
ـــــ أولاً في الموقع الجغرافي للحدث: لم تستهدف آلة الحرب الإسرائيلية عام 2006 الضاحية الجنوبية لأن فيها مدارس ومستشفيات وحسينيات ومحالاً تجارية يستخدمها شعب اختار مواجهتها فحسب، بل لأن الإسرائيليين يشتبهون في أن قواعد المقاومة الأساسية موجودة في الضاحية الجنوبية لبيروت.
ـــــ ثانياً في التعاون والتنسيق: نجحت السلطات العسكرية والأمنية والقضائية اللبنانية أخيراً، وبمساعدة قوى المقاومة من توقيف عدد كبير من المشتبه فيهم بالعمل الاستخباري والأمني لمصلحة اسرائيل، ومن بين هؤلاء أشخاص تولوا مسؤوليات داخل مؤسسات رسمية.
ـــــ ثالثاً في المنهجية: إن المواجهة المحترفة لنشاط الاستخبارات الإسرائيلية تستوجب السرية واعتماد أساليب التضليل. هذا جزء أساسي من المعركة ومن عمل «المقاومة» التي نصّ عليها البند السادس من البيان الوزاري. فالمقاومة ليست فرقة كشفية تستعرض شبابها خلال المناسبات ولا تقتصر طلائعها على مجموعات قتالية، بل تشارك قوتها الاستخبارية في العمل المقاوم وبشكل أثبت فعاليته في حماية لبنان.
ـــــ رابعاً في عجز الدولة: يؤكد مسؤولون قضائيون وعسكريون وأمنيون في الدولة استمرار ما أشار إليه تقرير لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة (برئاسة بيتر فيتزجيرالد) عام 2005 من عجز المؤسسات الرسمية في التحقيقات الجنائية. يضاف الى ذلك حال الفوضى والنقص الواضح في التنسيق بين الأجهزة الأمنية في مسرح الجريمة. ورغم التحسن الذي أحرز في الشرطة القضائية بفضل المساعي التي قام بها وزير الداخلية والمدير العام لقوى الأمن الداخلي وقائد وحدة الشرطة، ما تزال أجهزة الدولة غير مؤهلة تقنياً ومهنياً لمواجهة الاستخبارات الإسرائيلية المتطوّرة.
ـــــ خامساً في دعم عودة الشرعية: رحّبت المقاومة بدخول الجيش وقوى الأمن الداخلي الى الضاحية الجنوبية. ولم تكن عودة الدولة شكلية وإعلامية، إذ إن الشرطة القضائية قامت بعمليات مطاردة أمنية لمشتبه فيهم بتجارة وترويج المخدرات وبسرقة سيارات وجرائم أخرى. ووقعت مواجهات مسلّحة أدّت الى سقوط قتلى وجرحى وأوقف عدد كبير من الأشخاص. ويمكن الوزيرَ متري وغيرَه أن يسألوا قائد وحدة الشرطة القضائية وضباطها عن تفاصيل ذلك.
على أي حال، كان يفترض بوزير الإعلام، قبل إطلاقه تصريحاً كهذا عن عمل المؤسسات الرسمية، أن يتشاور أو يعقد اجتماعاً مع وزراء الدفاع والداخلية والعدل، يحضره النائب العام لدى محكمة التمييز ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية وقائد الجيش ومدير الاستخبارات في الجيش والمدير العام لقوى الأمن الداخلي والمدير العام للأمن العام والمدير العام لأمن الدولة أو من ينوب عنهم. فهؤلاء يعرفون جيداً تفاصيل التعاون والتنسيق الذي جرى خلال العامين الأخيرين بين أمن المقاومة ومؤسسات الدولة الرسمية والذي أدى الى توقيف عشرات المشتبه فيهم بالتعامل مع اسرائيل. كما أنهم يدركون التطوّر التقني والانضباط المهني والقوّة الاستخبارية التي تتمتّع بها المقاومة والتي سمحت بتحرير الأسرى وردّ العدوان الإسرائيلي على لبنان.
متري تحدّث كأنه ينتحل صفة خبير أمني عندما قال إن «الأمن كلّ لا يتجزأ ولا يمكن فصل مهمة أمنية عن أخرى» و«ما من جهة تستطيع أن تحقق في عملية التفجير سوى السلطة الشرعية اللبنانية». وفي الجملتين أخطاء كثيرة في استيعاب التخصصية من جهة والكفاءة من جهة أخرى، إذ إن تجزئة الأمن ضرورة مهنية في إدارة المهام. فلا يُعقل مواجهة عصابات النشل بواسطة مديرية الاستخبارات في الجيش مثلاً، كما لا يجوز استخدام شرطة مكافحة المخدرات في تعقّب المتعاملين مع العدوّ. وإذا كان لدى المواطنين معلومات أو قدرة على توقيف مشتبه فيهم (راجع قانون أصول المحاكمات الجزائية) فعليهم إحالة ذلك الى السلطات الرسمية وهو بالضبط ما قامت به المقاومة.
لكن، ربما كان متري يعبّر عن رأيه الشخصي، وخصوصاً إثر قوله في تصريح نشرته أمس الزميلة «الحياة» إن «على حزب الله أن يثبت الأقوال بالأفعال حين يقول إنه يريد أن تقوم الدولة بواجبها، وإن ما من منطقة مغلقة أمامها»، مؤكداً أن «صدقيّة كل الجهات هي على المحك، وعلينا أن نحترم كلامنا».
وهنا نسأل: هل حضر قاضٍ أو ضابط عسكري أو أمني لبناني الى مكان الحدث ومنعته قوى المقاومة من الاقتراب؟ وهل يمكن وزير الإعلام إعلان تفاصيل ذلك قبل إطلاقه التشكيك المبطّن بصدقية المقاومة؟ وإذا تعذّر تزويد الوزير المواطنين بهذه المعلومات، ألا تكون صدقيّته هو بالذات «على المحكّ»؟